مناظرة فارغة وأربع حروب ومحاولات اغتيال تفيد ترمب
رفيق خوري

النشرة الدولية –

أميركا واسعة الاهتمامات والموارد، ضيقة السياسات، ومولعة بالشخصنة، وهذا ما عكسته المناظرة الرئاسية بين المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس والمرشح الجمهوري دونالد ترمب، وهما ليسا غريبين عن أورشليم البيت الأبيض، فهاريس نائبة للرئيس جو بايدن وترمب رئيس سابق، لكن المناظرات الرئاسية ليست، أو لم تعُد، وربما لم تكُن، المناسبة التي يتوقع فيها الناخبون الإصغاء إلى نقاش عميق في البرامج والسياسات والتحديات في الحاضر والمستقبل، فهي مجرد مبارزة بين شخصين يبدو كل منهما كأنه “روبوت” مبرمج على أيدي خبراء يكرر ما حفظه، كثير من التهجم الشخصي والروايات الكاذبة والأرقام الخاطئة، وقليل من العرض السياسي الذي يليق بمتنافسين على أعلى منصب في العالم حيث المكتب البيضاوي، وهراء يستمر بعد المناظرة في الحملات الانتخابية.

ولم يتأخر ترمب في الادعاء أن خطاب بايدن وهاريس وراء محاولتي اغتياله، وهما محاولتان فاشلتان تطرحان أسئلة وتفيدان ترمب في تحسين شعبيته.

غير أن التحديات أمام أميركا حقيقية، بصرف النظر عن قدرات أي رئيس، واجتهاداته واعتماده على ما تخطط له “الدولة العميقة”. أوباما قرر تخفيف التزامات بلاده في الشرق الأوسط للتركيز على الشرق الأقصى حيث “الثروة والقوة”. وترمب أوحى أن الالتزامات نحو أوروبا ليست مجانية ولا شيكاً على بياض، وفتح أمام إسرائيل “اتفاقات أبراهام” كأن قضية الشعب الفلسطيني انتهت. وما حدث هو أن حركة “حماس” قامت بعملية “طوفان الأقصى” داخل إسرائيل التي ردت بحرب إبادة على غزة. فعادت أميركا دبلوماسياً وسياسياً وعسكرياً وأمنياً للتورط العميق في الشرق الأوسط. وقبل ذلك قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالهجوم على أوكرانيا، فوجدت أميركا نفسها مضطرة إلى الاستنفار وحشد حلفائها من أجل مساعدة كييف عسكرياً وأمنياً وسياسياً واقتصادياً، بالتالي إبقاء العيون مفتوحة على أوروبا من دون نسيان اللعبة الكبيرة مع الصين في الشرق الأقصى.

ومع أن الهموم المحلية لها الأولوية بالنسبة إلى الناخبين، لا سيما قضايا الاقتصاد والإجهاض والهجرة، فإن الاهتمامات الخارجية فرضت نفسها على الناس من دون تركيز عليها في المناظرة. مجرد شعارات وعناوين. أما خارج المناظرة، فإن النقاش عميق، إذ إن قائد القيادة الوسطى المركزية الجنرال مايكل كوريللا حذر في شهادة أمام لجنة في مجلس الشيوخ من أن “الرخاء والأمن في أميركا معرضان للخطر، وستخسر الولايات المتحدة الشرق الأوسط إذا تنازلت عن هذه المنطقة لإيران والإرهاب والصين”.

أما الدبلوماسي السابق والأستاذ في جامعة “ستانفورد” فيليب زيلكوف، فكتب في “فورين أفيرز” عن “ضمور في فن إدارة الدولة”، وطرح سؤالاً مباشراً، كيف نستعيد القدرة على مواجهة عصر من الأزمات؟، وكان جوابه غير عادي، “على أميركا وحلفائها الاستعداد لإمكان أن يتم توريطهم في أربع حروب مختلفة، مع الصين ومع روسيا ومع إيران ومع كوريا الشمالية”. فمن الخطأ، وفي رأيه، الاطمئنان إلى الانطباع السائد حول كون الحكومات الراديكالية في هذه الدول عاقلة ولن تغامر بعمل للتغيير بالعنف”، ومن المفارقات أن تكون موسكو “جاهزة لحرب طويلة في أوكرانيا وألا يكون داعمو كييف جاهزين لحرب طويلة”.

الواقع أن روسيا مستعدة لما أبعد من حرب أوكرانيا واستعادة منطقة كورسك الروسية التي توغلت فيها قوات أوكرانية، ومستعدة لمواجهة مع “الناتو”، ومستعدة لتغيير “عقيدتها النووية” واستخدام سلاح نووي تكتيكي. وحين طلب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من قادة الغرب رفع القيود التي تمنعه من استخدام أسلحة بعيدة المدى أميركية وأوروبية لضرب العمق الروسي، فإن روسيا أعادت تذكير هؤلاء بألا ينسوا بأنها قوة نووية. والصين تتحضر، بحسب أوامر الرئيس شي جينبينغ، لاستعادة تايوان بالقوة عام 2027.

كوريا الشمالية مستعدة لحرب نووية مع أميركا وكوريا الجنوبية واليابان، وإيران مستعدة لإشعال النار في كل الشرق الأوسط عبر وكلائها من دون التورط المباشر للحفاظ على نظامها ومشروعها الإقليمي. والكل ثابت، وأميركا متغيرة. بوتين الذي يحكم منذ عام 2000 باقٍ حتى عام 2030 والتمديد له مفتوح، وشي زعيم مدى الحياة مثل ماو، والمرشد الأعلى علي خامنئي مدى الحياة، وكيم جونغ أون ورث زعامة كوريا الشمالية عن والده كيم جونغ إيل الذي ورثها عن والده كيم إيل سونغ وسوف يرثها من بعده. أما في أميركا فالتغير حتمي كل ثماني سنوات وأحياناً كل أربع سنوات. والكل بين متخوف من ومراهن على انقلاب استراتيجي يقوم به ترمب إذا عاد للبيت الأبيض.

في تقرير عام 2024 لمؤسسة “راند” تصور دراماتيكي للأحداث بما يحتم على أميركا “بناء قوة للقتال على ثلاثة مسارح، الشرق الأقصى والشرق الأوسط وأوروبا”، لكن التحدي الأكبر والأخطر الذي لم يرِد ذكره في المناظرة الرئاسية، وضعه تحت الأضواء أعلى قائد عسكري أميركي هو الجنرال مارك ميللي الرئيس السابق لهيئة الأركان المشتركة في البنتاغون. وميللي الذي هو اليوم بروفيسور زائر في جامعة “برينستون” يرى في مقالة مشتركة مع إريك شميت أن “أميركا ليست جاهزة لحروب المستقبل”، وهي عملياً حروب بدأت في الحاضر من أوكرانيا إلى غزة ولبنان.

وإذا  كانت “طبيعة الحرب ثابتة”، فإن “أسلوبها مختلف”، واللعبة لم تعُد حشد الدبابات والطائرات والقوى وحاملات الطائرات بل صارت الخوارزميات والأسلحة الخفيفة والرخيصة، المسيّرات والروبوتات والصواريخ والذكاء الاصطناعي. فالدبابات لا تصمد أمام المسيّرات، وصاروخ فرط صوتي مثل الذي صنعته الصين قادر على تدمير حاملة طائرات أميركية. والعامل المهم أيضاً هو الكلفة، فـ”الصواريخ والمسيّرات التي أطلقتها إيران على إسرائيل في أبريل (نيسان) الماضي تصل قيمتها إلى مئة مليون دولار، في حين أن الاعتراض الأميركي والإسرائيلي كلف ملياري دولار”. ولا دولة، في رأي ميللي وشميث، جاهزة تماماً لحرب المستقبل، لكن خصوم أميركا يسبقونها في الجاهزية، إذ إن الصين تسيطر على 70 في المئة من السوق التجارية العالمية للمسيّرات.

والوجه الآخر لحروب المستقبل هو أن البلدان الصغيرة و”القوى غير الدولتية” تستطيع إلحاق الأذى بالكبار والأقوياء. وما نحن فيه اليوم هو العودة لسياسات القرن الـ19 بالغزو والتوسع لخوض حروب القرن الـ21. وما أصعب الحسابات في عالم اللايقين.

زر الذهاب إلى الأعلى