ماذا تعني محاولات اغتيال ترمب؟
وليد فارس

أكثر الملفات غموضاً في حقبة الانتخابات الأميركية الرئاسية الحالية هي محاولتا اغتيال الرئيس السابق ومرشح الحزب الجمهوري دونالد ترمب خلال مهرجان انتخابي في الصيف، وعبر إطلاق نار على مقر إقامته في مارالاغو خلال منتصف سبتمبر (أيلول) الجاري. وتتسابق التحاليل الصحافية الأميركية والدولية حول أسباب استهداف تلك العمليات الإجرامية – التي قد يعدها البعض إرهابية – رئيساً سابقاً وزعيم تيار واسع جداً في الولايات المتحدة، والأهم من ذلك مرشحاً لأن يكون الرئيس المقبل لأميركا.

هاتان المحاولتان اللتان شاهدها الرأي العام الأميركي مباشرة على التلفزيون وأثارتا مخاوف كبيرة، أدتا إلى ملف هائل للتحقيق كأولوية وطنية كبرى تقوم بها السلطات الفيدرالية، لكن أيضاً وبموازاة ذلك باتتا مادة ملتهبة للإعلام الأميركي والأوروبي والدولي بصورة عامة. ومما لا شك فيه أن الأسئلة الاستراتيجية حول هاتين المحاولتين باتت واضحة للجمهور.

وأولها من يقف وراء مثل هذه العمليات بغض النظر عمن ينفذها. والموضوع الثاني هو بصورة سؤال آخر أي ما هو هدف هذه العمليات؟ ليس فقط في ما يتعلق بتصفية الرئيس بهذه الصورة لكن خصوصاً ما هو المشروع الآخر الذي يحاول إيقاف مشروع ترمب من الوصول إلى المكتب البيضاوي في البيت الأبيض؟ وانبثقت عن هذه الأسئلة أسئلة أخرى أكثر صعوبة لأسباب عديدة، وهي من يمول تلك العمليات ومن يحاول استعمال طاقات داخلية في البلاد؟ وهل مثل هذه المحاولات تأتي بأمر خارجي وإن كان ذلك كذلك فمن تلك الدولة أو النظام أو حتى الجماعة.

لاحظنا ردات الفعل الإعلامية والسياسية لمحاولتي الاغتيال في أوهايو وفلوريدا وقد انقسمت عمودياً بين تيارين. التيار الأول القريب من الإدارة والحزب الديمقراطي يرى أن المعتدين على الرئيس ترمب هم أشخاص غير طبيعيين يعانون عدم اتزان نفسي، وأن أهداف الاعتداء على الرئيس السابق ليست بالضرورة أهدافاً سياسية واضحة، وأضاف بعضهم أنه وإن كان هنالك أي هدف سياسي لهذه المحاولات فهو نتيجة للتعبئة السياسية والنفسية والتطرف الذي تضج به خطابات ترمب. وكأن هذه الروايات تحاول تفريغ عمليات الاغتيال من مضمونها السياسي هرباً من تحمل مسؤولية معينة، ومحاولة لقلب هذه الأعمال العنيفة على رأس الرئيس الأميركي السابق.

وذهب تيار آخر من هذا المعسكر ليقول إنه يجب التوقف في هذه المحاولات الفاشلة على انتشار الأسلحة بين يدي المواطنين ولا سيما هؤلاء المتطرفين أو غير المتزنين نفسياً أو حتى الذين يريدون أن تكون لهم صور في الإعلام يستفيدون منها. لكن الرد على هذا التيار الأخير يقول إن المسألة ليست مسألة حمل السلاح وانتشاره بين المواطنين، إذ عندما اغتيل الرئيس جون كينيدي عام 1963 لم يطرح أحد وقتها أن المشكل كان السلاح، بل إن المعادلة كانت موجودة في منظمة عميقة داخل البلاد استهدفت الرئيس الديمقراطي.

ونفس المنطق انطلى على عملية اغتيال شقيقه المرشح الرئاسي روبرت كينيدي داخل لوس أنجليس وأيضاً على شخصية تاريخية أميركية-أفريقية وهي القس مارتن لوثر كينغ. في وقتها لم يتطرق أحد لموضوع السلاح المنتشر بين الأميركيين كسبب لهذه الاغتيالات. وعبر العقود التي لحقت كانت هنالك محاولات اغتيال أخرى لرؤساء وقيادات ومن أهمها محاولة اغتيال الرئيس رونالد ريغان خلال عام 1981، وقبل ذلك محاولة اغتيال الرئيس فورد في كاليفورنيا. وتكاثرت هذه المحاولات أيضاً وهي تستهدف أعضاء في الكونغرس وفي السلك الدبلوماسي لأعوام ولأسباب متفرقة. ولم يعلن أحد أن هذه المسألة تتعلق بانتشار السلاح. ويضاف هنا أنه في أقصى حالات تحديد حمل السلاح وفي أقصى شروط الحزب الديمقراطي فإن العدد الإجمال للمواطنين الأميركيين الذين يملكون وسوف يملكون تلك الأسلحة قانونياً، سيكون نحو 60 مليوناً في الأقل. فهل يتحمل الـ60 مليون مواطن أميركي مسؤولية استعمال الأسلحة في محاولة اغتيال معينة في أميركا.

هذه المحاولات منذ اغتيال أبراهام لينكولن بعد الحرب الأهلية الأميركية مروراً بكيندي ومارتن لوثر كينغ جميعها انبثقت عن أسباب سياسية أكانت داخلية أم خارجية. فكما يقال فإن البندقية أو المسدس ليس لهما فكر سياسي، إنها اليد والأصابع التي تضغط على الزناد التي هي مسؤولة عن تلك الأعمال. وحتى ولو لم يكن الشخص مطلق النار متوازناً في حالات الاستهداف السياسي لا بد أن يكون فكر سياسي أو طاقم سياسي يشجع على فعلته.

يبقى المعسكر الآخر الذي يؤمن أن وراء هذه الاغتيالات وبخاصة هذه الأخيرة خلال هذا الموسم الانتخابي أسباباً سياسية عميقة تقف وراءها قوى تضغط بكل ما لديها من وسائل لكي تصفي هذا الرئيس، لأسباب تتعلق بمصالح أكبر بكثير من الحال السياسية التي نراها في الإعلام. ويعود هذا الفريق إلى الخطاب السياسي الذي يستهدف ترمب منذ عام 2015 وبات يشكل حالاً عامة من التحدي، لكن هذا التحليل يضيف أن هنالك فريقاً سياسياً عقائدياً وربما مالياً قرر الانتهاء من حالة ترمب من جذورها داخل الولايات المتحدة ومنذ أعوام لأن الرئيس السابق يشكل تهديداً استراتيجياً أساساً لمصالحها العميقة.

ويرى أصحاب هذا التحليل أن محاولتي الاغتيال إنما هما جزء من الحرب الشرسة على ترمب منذ أن أعلن إرادته بأن يترشح لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية خلال خريف 2015، واستمرت خلال الحملة الانتخابية في عام 2016، ويزعم هذا الفريق أن قراراً اتخذ من قبل أطراف غير واضحة المعالم لكن واضحة الأهداف، أرادت إخراج ترمب من السلطة وأخرجته خلال عام 2020 إلا أن معاندته لتلك الأطراف خلال أربعة أعوام وقتما كان خارج السلطة ويتسلق مواقع المعارضة حتى تم تعيينه أو انتخابه رئيساً رسمياً لها.

وتعلل هذه المدرسة بربطها محاولتي الاغتيال بسلسلة أطول عبر التركيز على إبعاد ترمب من السلطة وقد تم تحليل ذلك كنفس الخيط الذي بدا خلال حملته الانتخابية الأولى وبخاصة خلال عام 2016 والمعارضة البيروقراطية الشرسة له خلال الأربعة أعوام التي تولى خلالها سدة الرئاسة وطريقة إخراجه من السلطة التي اعتمدت الانتفاضة من الداخل. وبعد ذلك القضايا العدلية المتراكمة التي وصلت إلى 50 ملفاً وهذا أمر لم يشهد له تاريخ أميركا السياسي الحديث مثيلاً.

ويضيف البعض طريقة استدعائه وتفتيش بيته إضافة إلى تصريحات النظام الإيراني الذي أعلن نيته تصفيته وبعض المسؤولين السابقين بسبب مما أصدره بتصفية قاسم سليماني خلال عام 2020. كل هذه التراكمات إنما تؤكد أن محاولات الاغتيال كانت ولا تزال بهدف سياسي أكبر مما هو معلن في الإعلام الأميركي وحتى من قبل الخصمين الأساسيين، أي حملة ترمب وحملة كامالا.

والتحليل الأولي هو أنه لو كانت هناك عملية واحدة ضده أي الأولى لعدت نقطة، والنقطة في علم الرياضيات تؤدي إلى احتمالات 360 درجة غير متناهية من الذي حصل، لكن بعد شهرين جاءت محاولة اغتيال ثانية فكانت نقطة ثانية. ونقطتان تصنعان خطاً والخط يربط بين أحداث، مما يعني بنظر هذه المدرسة أن هنالك في الأقل خلال الحملة الانتخابية قراراً عميقاً لدى جهات تخاصم ترمب تريد إبعاده من بيت الأبيض أياً كان الثمن، بالتالي عندما لم تنجح العملية الأولى حدثت عملية ثانية، وشخصية المنفذ غير مهمة في هذا التحليل والأهم هو التوقيت وهو الهدف أي إنقاذ مجموعة مصالح من عودة ترمب إلى موقع الرئاسة. وهنالك تحليلات تتسرب حول احتمال أن تكون وراء هذه المحاولات ليس فقد أفراد ومجموعات بل أجهزة تخدم تجمع مصالح هائلة وقلقة من عودة ترمب إلى البيت الأبيض. إذ تواجه أميركا ليس فقط محاولات اغتيال لكن صراعات لم تعرفها بهذا العمق في الماضي.

من هنا فإن الأنظار مشدودة أولاً على ترمب وعلى محاولات أخرى محتملة، وثانياً على الشارع الأميركي الذي بات قريباً جداً من أزمة شاملة بغض النظر عمن يقوم بها لكنها مرتبطة بنجاح أو عدم نجاح عملية إبعاده من البيت الأبيض.

المسافة بين كتابة هذا المقال والانتخابات الرئاسية أقل من شهرين لكن تبدو كأنها طويلة جداً. والتحدي الآن هو على النخبة الأميركية الدستورية الحاكمة وكيف تتمكن من ضبط الأمور وحماية مسيرة الانتخابات إلى بداية نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وخروج المنتصر بصورة واضحة لأنه ما دون ذلك فان هذه القوة العظمى ستعبر مرحلة صعبة، لأن أي انهيار كبير يبدأ بالأمن ومن ثم السياسة حتى يصل إلى الاقتصاد، وأية هزة في الولايات المتحدة يشعر بها العالم بكامله.

وإن كانت هذه المحاولات خطرة جداً في المؤسسة الأميركية إلى حد حافة الانهيار، إلا أن المؤسسات المتجذرة كالمحكمة العليا والقوات المسلحة والبيروقراطيين المحايدين وعدد كبير من حكام الولايات يشكلون قوة استقرار واسعة، بإمكانها أن تدفع بالمتخاصمين لكي يمثلوا للدستور الأميركي ويعيدوا البلاد إلى وحدتها وقوتها العظمى في عالم متقلب ومتفجر.

زر الذهاب إلى الأعلى