مجلة ‘أفكار’ الأردنية تحتفي بالشاعر أمجد ناصر
النشرة الدولية –
خصصت مجلة “أفكار” التي تصدر عن وزارة الثقافة الأردنية، في عددها الـ 371، ملفاً عن الشاعر الأردني أمجد ناصر، الذي رحل في أكتوبر/تشرين الاول 2019 بعد صراع مع المرض. قدّم للملف الشاعر خلدون امنيعم، وشارك في كتابة شهاداته ومقالاته الشاعر نوري الجراح، الناقد فخري صالح، الكاتب عريب الرنتاوي، الناقد والفنان التشكيلي حسين نشوان، والشاعر والفنان التشكيلي محمد العامري.
حملت مقدمة خلدون منيعم عنوان “طفولة الصحراء وكهولة الـماء” جاء في مطلعها “رحل أمجد ناصر، إذن، رحيلاً لا يشابه الغياب الأبديّ، بل يماثله في الشكل لا المصير، فالشكل مشهديّة الكائن وهو ينطفئ على مراحل، أو بغتة، كأن تسكب بحراً على شمعة في حجرة صغيرةٍ… وفي الـمصيرِ– رحيلاً- يشبه ذات أمجد المعذّبة في مسرّتها وخفوتها، كعود أبدي، إنه رحيل النهر إلى الـمصب، وجموح الخيل في أعالي الجبال؛ لعل رحيله فطنة الكائن لـما ينفطر، أو يقظة النائم لـما ينتبه”. وختم منيعم مقدمته “هكذا، إذن، مفتتح الختام، إذ نشهد أمجد ناصر يهيل التراب على جسد يحيى النعيمي، كبستاني حاذق في زراعة الورد؛ لتبقى روحك الجمالية والشعرية شاهداً على منجز شعري إنساني عال وباذخ، ومفرط الحميمية في جوانياته، لتكون في رحيلك مفارقة شعرية جديدة: نستقبلك مبتهجين آن وداعك مؤبنين، ونودعك مؤبنين آن استقبالك مبتهجين، وبينهما، وقبلهما، وبعدهما، عليك السلام- أيها البدوي- حيا وميتا”.
الشاعر نوري الجراح، رفيق درب أمجد ناصر، ابتدأ شهادته الحميمة “جدران المنفى” قائلاً “الشعراء لا يموتون، الشعراء زوار يأتون من المستقبل، وعندما نتفقدهم ولا نجدهم بيننا نكتشف أنهم قفلوا عائدين من حيث أتوا. كنت أريد أن اقول هذا لأمجد، وأنا أكشف الغطاء عن وجهه، لكنه كان نائماً، ونومه منشغل بأنوار تتلألأ في بهو قصيدته.
واستذكر الجراح علاقته بالراحل قائلاً “منذ أن خرجنا أحياء من حصار بيروت صيف 1982، وقد كنا لاجئَين عربيين يقطنان خيمة فلسطينية، وحتى لحظة العناق الأخيرة تلك في أوسترلي، كل ما بقي لنا هو ضوء الأمنية التي رافقت صداقتنا المترعة بالأسى والفرح والأمنيات، بالغضب والرضى، بالحب والفقد، بالحروب التي التهمت الأصدقاء والأعداء، وبالثورة على كل ما بدا ليفاعتنا باطلاً. صرفنا الوقت ننتصر للشعر بوصفه الحرية، وللإنسان بوصفه القصيدة، وصرفناه بالشغف- أولاً وأخيراً- بالكلمات، الكلمات، الكلمات؛ سلاح الشاعر في العالم. أمجد كان رفيق تلك الرحلة من بيروت إلى نيقوسيا إلى لندن، وصداقتنا في أطوارها المختلفة كانت صداقة المغامرة في اللغة والمنفى الاختياري، وقد اقتسمنا معا، صحبة شعراء آخرين، رغيف الخبز وساحة المعركة.
وختم الجراح شهادته قائلاً “كانت فكرتنا الفلسطينية الوتدَ الذي رفع خيمة القصيدة وخيمة المنفى للهاربين من مدن الاستبداد العربي. وكنا في تلك الخيمة شقائق نعمان الشام بأعمار قصيرة وأبصار تطارد الأنجم.
وجاءت شهادة الناقد فخري صالح بعنوان “أمجد ناصر: يليق به المديح” قال فيها “لا أريد أن أرثيه، فالرثاء لا يليق بالصديق الراحل أمجد ناصر (يحيى النعيمي)، يليق به المديح لخصاله العديدة، للصداقة التي ربطت بيننا، وستبقى، رغم رحيله، ميراثاً يتغلَّب على النسيان، ويمكننا نحن أصدقاءَه وقراءَه وعارفي منجزه الحي الباقي من التعرُّف عليه أكثر في ضوء الغياب الساطع الذي يجعل الأشياء واضحةً، كما لم تكن من قبل، وينبِّهنا إلى تميُّز ما أنجزه أمجد وعلوِّ كعبه في الشعر والنثر، كما في الموقف الإنساني والثبات على هذا الموقف الذي يؤمن بالناسِ وسعيِهم الدائب إلى النضال من أجل حريتهم وكرامتهم الإنسانية.
وأضاف الناقد صالح “لقد زاوج أمجد بين هذا الموقف الإنساني وتجديد دم الثقافة العربية، وتطوير الحداثة الشعرية. وهو رغم مشوار العمر القصير الذي خطاه على هذه الأرض، ترك ميراثاً من الشعر والنثر، من القصائد والروايات وكتب الرحلة، من المقالات السجاليَّة التي جعلته واحداً من بين أفضل كتاب المقالة العرب الذين تنوس كتابتهم بين السياسة والثقافة، بين الرغبة في قول شيء عن أحوال هذا العالم وكتابة قطعة أدبية تتوافر على ما يتوافر عليه الأدب من معرفة وخيال وشعريَّة. لكن ما أنجزه أمجد في حقل الشعر سيظل باقياً ومؤثراً وفاعلاً، ما بقي الشعرُ وبقيت الثقافةُ فاعلين في حياة العرب المعاصرين. فشعره يمثل مختبراً نموذجياً لتحولات القصيدة العربية خلال ما يزيد على نصف قرن”.
وكتب عريب الرتناوي عن علاقته بأمجد ناصر مبيناً أنه حين رآه يُوارى الثرى في موطن الأهل والأجداد، أحس بأن جزءاً منه ينسلّ إلى تلك الحفرةِ الضيقة، فقد ذهب أمجد وذهبت معه انتظارات كثيرة ومواعيد لم يضرباها، ليواصل ما اعتادا على فعله، جلسات تصل الليل بالنهار، يختلط فيها الهزل بالجد، والرأي بالنميمة التي تواطآ على وصفها بـ”المنعشة”.
وعن تجربة ناصر السياسية، كشف الرنتاوي أنه لم يكن شغوفاً بـ”السياسة اليومية” بقدر ما كان معنياً بالسياسة بما هي قيم عليا ومثل سامية ومبادئ لا تعرف التجزئة والقسمة. فبقدر فرحته في تولي “الشؤون الأردنية” في مجلة “الهدف” الفلسطينية كان توّاقاً لمغادرتها إلى فضاءاتِ الثقافة والشعرِ والأدبْ.
وكتب حسين نشوان قراءةً نقديةً في نصوص أمجد ناصر الشعرية والنثرية بعنوان “الارتحال في جغرافيا المكان والنص” وقف فيها على ثلاث رحلات كانت تلتقي دائماً في تلك النصوص لتبدو الكتابة ذريعة الرّحلة ومآلاتها ووسيلتها للبحث عن أسلوب وتقنية جديدة تفتح للناص عوالم مختلفةً في الكتابة، التي تتعدّد فيها الأصوات والمعاني والدّلالات والأشكال، وهي الرّحلة في النص بتعدّد أشكاله، والرّحلة في الذات بتعدّد الأسماء والهويّات، والرّحلة في المكان باختلاف ثقافاته”.
وتناول نشوان تمرّد أمجد ناصر، مؤكداً أنه لم يكن تمرداً عبثياً، بل كان رؤيوياً يقيس الحياة بالمعرفة والسؤال. وكان الشعر وسيلته للتمرّد على الشكل في ذهابه إلى قصيدة النثر مطلع الثمانينات من القرن الماضي.
أما محمد العامري، فقد كتب في الملف مقالاً بعنوان “بدوي يلثغ بالشّموس”، قال فيه إن أمجد ناصر وُلد محجّلاً بطيبة البدو، وقوة العينين اللتين تنمّان عن أنفة تحسّها في فراسة وجهه وأصالته، يرتق فيك الحنين، فلم تستطع الحياة اللندنيّة أن تغيّر من حرارة قلبه شيئاً، ظل الطائر الذي يضرب بجناحيه الفكرة تلو الفكرة، ليعجن لنا طحيناً من الماس، خَبزه بأنفاسه الساخنة”. وأضاف العامري أن أمجد شاعر يلثغ بالشموس، فالمكان الأول يتنقل معه تماماً كجسده، أو كحقيبة مليئة بالذكريات؛ الحبيبة والأم والأب وحواس المكان والروائح من هيل وقهوة ونيران، إنها البادية التي تنغرز في لحم القصيدة وجمالياتها الراعشة، انغماس في اللثغة الأولى كوجاء يصد عنه ألم الحاضر، يستدرج بروحه تلك المشاهد كصياد لحظات حذِق.