الديون المغربية الخارجية مطلع القرن العشرون وتأثيرها في تغلغل الرأسمال الفرنسي بالمغرب
بقلم الكاتب وليد بليلة من المغرب
قد يعتقد البعض أن الاقتراضَ دائمًا ما يكون آخرَ حلٍّ حاسمٍ من أجل تجاوزِ أزمةٍ ماليةٍ وضائقةٍ تَعْصِفُ بخزينةِ حكومةٍ أو مؤسسةٍ أو غيرهما؛ لكنَّ تاريخَ الديون المالية يشهد بنقيض ذلك، خصوصًا عندما يتحول الاقتراض من مشروع حَلٍّ إلى مشكلة في حد ذاتها
في التاريخ الحديث و المعاصر للدولة المغربية، يجد المؤرخون والمهتمون بالشؤون الاقتصادية أنفسَهم أمام سلسلةٍ من القروض والديون، اختلفت ظروفُها ودوافعُها ونتائجُها.
منذ بداية القرن 18م، كان واضحًا أن المغرب يسير في طريق الانهيار والإفلاس الاقتصادي، فعندما توقَّدت نيران المنافسة بين الدول الإمبريالية الأوروبية وازداد نشاط تحركاتهم في العالم المتوسطي، وذلك نتيجةً لما أفرزته الثورة الصناعية من تحولات عميقة وجَذْريَّةٍ، انعكست بالإيجاب على حجمِ مبادلات التجارة العالمية بازدياد حركة الإنتاج لدى الدول الأوروبية الكبرى في تلك الفترة، ورغبتها في تصريف إنتاجها عبر السيطرة على الملاحة بالبحر الأبيض المتوسط (قلب العالم)، واستعمار بلدان جنوب المتوسط الذي كان المغرب جزءًا لا يتجزأ منه، وبِحُكْمِ موقعِها الإستراتيجي ونفوذِها التاريخي على مستوى التجارة، بدأَتْ بوادرُ التنافسِ الأوروبي على الإيالة المغربية تَظْهَرُ وتَشْتَدُّ مع مرور السنوات بعد ذلك، وهذا ما جعل السلطان سليمان بن محمد يَنْهَجُ سياسة سميت بـ“الاحترازية” أو “الحِمَائِيَّة“؛ نِسْبَةً لهدفها المتمثلِ في حمايةِ المغرب من الأطماع الأوروبية، إلا أن هذه الخطة – التي كان من المفترض منها حمايةُ البلاد – قد أضَرَّتْ بها وساعدَتْ على تعميق انهيار الاقتصاد المغربي، حيث بدأت الخزينةُ المغربيةُ مرحلةَ التأزم المالي مع تراجع المداخيل الجمركيَّةِ كنتيجةٍ مباشرةٍ لاحتكار السلع عن التصدير ومنعِ دخول السلع الأوروبية، وبالتالي انخَفَض حجمُ المبادلاتِ المغربية الخارجية في النصف الأول من القرن 19م من 26 مليون فرنك ما بين سنوات (1830-1840) إلى 15 مليون فرنك خلال مدة (1848-1853)، في هذه الفترة – خلال القرن 19م – كان المغرب يعيش على واقع اقتصاد هشٍّ أساسُه فِلَاحَةٌ معيشية بالكاد تحقق اكتفاءً ذاتيًّا بالاعتماد على أساليب وتقنيات وصناعة تقليدية تشمل مجموعة من الحِرف اليدوية البسيطة.
إن سلاطين المغرب كانوا على اطلاع مستمر بالتحولات العميقة التي كانت تعرفها بلدان أوروبا، ولكنهم لم ينتَهِجوا سياسةً مواكِبَةً لتلك التحولات التكنولوجية، وفضَّلوا البقاء في موقع ضَعف، وهو ما حَطَّم هيبة المغرب وزاد من حِدَّة التنافس الإمبريالي عليه، خصوصًا في فترة حكم السلطان سليمان الذي عَرَفَ عهدُه بدايةَ الانهيارِ الاقتصادي – كما سبق أن ذكرنا سلفًا – نتيجةَ سياسته الاحترازية، التي رغم فشلها على المستوى الداخلي بالمملكة إلَّا أنها كانت عقبة أمام طموحات الأوروبيين، غيرَ أنَّ ذلك لم يمنعْهم من اختراق الأسواق المغربية من جديد، وكان لأعظم دولة إمبريالية آنذاك – إنجلترا – دورٌ أساسيٌّ في إجبار المخزن على التخلي عن سياسته الانغلاقية، حيث تمكنت من توقيع الاتفاقية التجارية معه سنة 1856م، وتَلَتْهَا اتفاقيات تجارية أخرى مع دول أوروبية كفرنسا وإسبانيا مَنَحَت امتيازاتٍ اقتصاديةً وإداريةً واسعة للأوروبيين، وبعضُ تلك الاتفاقيات كان له انعكاساتٌ خطيرة على خزينة الدولة المغربية، كاتفاقية سنة 1860م مع إسبانيا بعد انتصارها على المملكة في حرب تطوان، وتضمنت الاتفاقيةُ التزامَ المغربِ بأداء غرامةٍ مالية باهظة كــتعويض لإسبانيا عن خسائر الحرب، واقتسام جزءٍ من المداخيل الجمركية معها.
ويذكر بعضُ المؤرخون بأن مدة تسديد مجموع الغرامات المالية الإسبانية عن حرب تطوان استغرقت أكثر من 20 سنة؛ أدت بالتالي إلى استنزاف موارد الخزينة المالية وإثقال كاهلِ الرعية بالضرائب والجِبايات .
كلُّ هذه الضغوطات الإمبريالية جَرَّت المغربَ إلى دوامةٍ من المشاكل والأزمات الخطيرة، بحيث تراجعت مداخيل الدولة بشكل مَهُول، وبالتالي دخلت الخزينة مرحلة الإفلاس موازاةً مع تراكمِ الديون وإفلاسِ التجار والحرفيين بسبب غزو السلع الأوروبية، وفي مقابل هذه الوضعِيَّة الاقتصادية الحرجة بالمغرب، كانت الضفة الشمالية للمتوسط تشهد حركةً تنافُسِيَّةً بين الدول الأوروبية الكبرى، مثل إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، في مشاريعهم الإمبريالية، وطموحاتهم الاستعمارية التوسعية .
ومع تولي السلطان الحسن الأول العرش، استمر تدهورُ الاقتصاد بالإيالة، واستمرت معه الضغوطات الأوروبية، وهو ما أرغم السلطان الجديد على القيام بإصلاحات اقتصادية وإدارية، لكنها باءت بالفشل؛ بسبب سياسته التَّقَشُّفِيَّةِ وثَوْرَاتِ القبائل .
ورغم إصرار السلطان الحسن الأول على تطبيق ضريبةٍ جديدة وإلزامِ الجميعِ – رَعِيَّةً ومَحْمِيِّينَ – بأدائها، إلَّا أنَّ ذلك لم يحقق أيَّ نتيجة إيجابية للخزينة المالية المُفْلِسَة .
وفي سنة 1880م، طلب السلطان عقدَ مؤتمرٍ عاجلٍ في مدريد لحل مشكلة الحمايةِ القنصلية، ومراجعةِ بعض بنود الاتفاقيات التجارية الأوروبية المُبْرَمة مع المغرب .
رغم أن المؤتمرَ أكَّد على سيادةِ المملكة واستقلالِها وعدمِ تبعيتها، إلا أنه كَرَّسَ الامتيازاتِ المتفقَ عليها في الاتفاقيات السابقة، بل الأخطرُ أنه قام بتوسعيها بشكل مُفْرِطٍ .
ومن المؤكد أن هاتِهِ الامتيازات عَمَّقَتْ من أَزمة الإيالة المغربية، وازدادت الأزمة داخليًّا مع اندلاع ثوْرات القبائل وانتشارِ الاضطرابات السياسية التي عجز السلطان الحسن الأول عن القضاءِ على جبهاتها .
تطورت تلك الثوْرات بعد وفاته، وتولَّى ابنُه الأصغر عبدُالعزيز العرشَ تحت وصاية الحاجب باحماد، وهنا سنذكر أهم تلك الثوْرات، وهي ثورة الجيلالي الزرهوني – الشهير عند المغاربة بلقب “بوحمارة” – اندلعت سنة 1901م بمنطقة شمال المغرب، واستطاع من خلالها السيطرةَ على منطقة الشمال وتحقيقَ انتصارات على جيش المخزن وكَبَّدَهُ خسائرَ اقتصاديةً فادحةً، كاستنزاف الموارد المالية المخزنيَّة لتغطية نفقات الحرب، حيث وصلت مجموع .النفقات مبلغ 250.000 ريـالٍ
إفلاسُ الخزينة وفشلُ ضريبة الترتيب دفعَا السلطانَ الجديدَ إلى طلبِ الاقتراض من الدول الأوروبية، فكان أنِ اقتَرَض سنة 1902م مبلغ 7.5 مليون فرنك من فرنسا بفائدة 6 في المائة، ولم يَكَدْ يمر سوى عام حتى طلب قرضًا جديدًا سنة 1903م بقيمة 22.5 مليون فرنك من فرنسا وإنجلترا وإسبانيا بفائدة 6 في المائة، لم يتسلم منها المغرب إلا مبلغ 13.5 مليونًا، والباقي اقتُطِعَ لأداء قيمة الفوائد السابقة، وقد رَهَنَ – مقابل هذا القرض – جماركَ طَنْجَةَ لصالح حكومتي فرنسا وإنجلترا، مع انتهاء السنة نَفِدَت السيولةُ الماليةُ، ودخل المغرب في ضائقةٍ مالية خانقة أَشَدَّ من سابقاتها؛ كنتيجة مباشرة لـتفاقُم نفقات تمويلِ الحرب على .بوحمارة، والعجزِ عن تأديةِ القروض السابقة
وفي عِزِّ الاضطراباتِ السياسية والانهيارِ الاقتصادي، سيتَفَاجأُ المغاربة بقرارِ سلطانِهم طلبَ الاقتراض من جديد، ورغم حرصِه على التمسكِ بسياسة “التوازن الدولي” التي انتهجها والدُه، والتي تَعني عدمَ الاعتمادِ على دولةٍ واحدةٍ في الاقتراض لدَرْءِ السقوط في فخ الاستعمار، إلا أنَّ مساعِيه في ذلك باءت بالفشل؛ بسبب الظروفِ الاقتصادية التي كانت تعيشها الدول الأُوروبية الكبرى في تلك الفترة، فقد كانت تعيش إسبانيا على واقعِ تَأَزُّمٍ ماليٍّ دفَعَها لاستيراد الأموال الفرنسية من البنك الباريسي، أما ألمانيا فكانت لها طموحات بفرضِ قوتها الصناعية؛ ولذلك استثمرت كل أموالها في مشاريعها، وبالنسبة لإنجلترا فكانت تعاني هي الأخرى من مصاعب مالية خلَّفَتْها حرب “البوير” فاضطُرَّتْ هي أيضًا لاستيراد رؤوس الأموال الفرنسية لسَدِّ .عجزها الذي أنتج انخفاضًا في مبادلاتها التجارية الخارجية
لم تَبْقَ من حكومات أوروبا الكبرى سوى فرنسا، على عكس الدول السابقة، كانت – إمبراطورية نابليون السابقة – تتوفر على وضع مالي مريح بامتلاكها رصيدًا هائلًا من رؤوس .الأموال الجاهزة للتصدير
وبحكم أن حكومة فرنسا كان لديها مشروع وطموحات واضحة لاستعمار شمال إفريقيا، وكان العائق وراء استكمال نجاح المشروع هو منافسة بعض الدول الكبرى، مثل ألمانيا وإنجلترا وإيطاليا وإسبانيا؛ لذلك وجدت الظروف ملائِمَةً للتغلغل في المغرب بعيدًا عن المنافسين، بعد .تحطم ورقة سياسة التوازن الدولي التي كانت في أيدي المخزن
فكان أنْ أرسل السلطان عبدُالعزيز في يناير 1904 إلى فرنسا يطلب رسميًّا مساعدتها المالية؛ فوافقت الأخيرة على الطلب ومنحـته قرضًا ضخمًا بقيمة 62.5 مليون فرنكٍ، اعْتُبِرَ آنذاك أكبرَ قرض يتَسلَّمُه المغرب، كلَّفَت الحكومةُ الفرنسيةُ كونسورتيوم بِضَمِّ بنك باريس والأراضي المنخفضة وكونتوار الخصم والقرض الصناعي والتجاري والشركة المرسيلية للقرض، ويرأسُه بنك الاتحاد الباريسي، فائدة القرض حُدِّدَتْ بـ 5 في المائة، ورَهَنَ المغربُ مقابلَه نحوَ 60 في المائة من الإيرادات الجمركية اليومية كضَمَانَةٍ؛ وبالتالي نجحت فرنسا في بداية سيطرتِها .على مداخيل المغرب ومراقبةِ مراسيه وموانئه
على عكس اتفاقيات القروض السابقة، اعْتُبِرَت اتفاقيةُ قرضِ سنة 1904م أخطر اتفاقيةٍ ماليةٍ وقَّعَتْ عليها السلطاتُ المخزنية؛ فقد تضمنت شروطًا كان لها تأثيرٌ إيجابيٌّ على المشروع .الإمبريالي الفرنسي بالمغرب، وشَكَّلَتْ بدايةَ السيطرةِ على البلاد .
وقد كان أخطر ما جاءت بهذه الاتفاقية، هو الالتزام بالتوجهِ للبنوك الفرنسية في حالة الاقتراض مستقبلًا، وثانيا، إسناد مهمة إنشاء بنك وطنيٍّ بالمغرب إلى اتحاد البنوك الفرنسية.
وجاء تأسيسُ البنك المخزنيِّ سنة 1907م بعد مؤتمر الجزيرة الخضراء، وتمركز دوره في مَنْحِ القروض للمخزن، وتمويلِ الأشغال العمومية، والإشراف على ضرب العَمْلَةِ المغربية، وجمعِ المعادن الثمينة، ساهمَت كلُّ الدول المشاركة في المؤتمر في رأسمال البنك بنسب متفاوتة، .غيرَ أنَّ حصة الأسد عادت لفرنسا كأكبرِ مستفيدٍ ومستثمِرٍ في البنك
كانت حكومة فرنسا تتحرك بقوة في تلك الظروف لغزو الأسواق المالية المغربية، عن طريق مجموعاتها المالية التي ازداد نشاطها بالمغرب، وبدأت في تأسيس فروعها على تراب .المملكة، فكانت شركة “شنايدر وشركاؤه” من أوائل المهتمين بالسوق المغربية
كما تأسست الشركة المغربية منذ سنة 1902م، وهي شركة مالية تجارية شملت فروعُها طَنجةَ وفَاس، وكان لمندوبها بفاس السيد ج.فير حظوةٌ لدى السلطان عبدالعزيز، حتى إنه كان من أهم الوُسطاء بينه وبين البنوك الفرنسية في الحصول على القروض، وكافأه مقابل ذلك بمنحه .ترخيص تنفيذ الأشغال البحرية بالدار البيضاء وآسفي
بدَا واضحًا أن حكومة الفرنسيس نجحت في مساعيها؛ حيث ارتفعت نسبةُ مبادلاتها التجارية مع المغرب من 24 في المائة سنة 1904 إلى 38 في المائة سنة 1905، وبالتالي أصبح للمصالح الفرنسية حضورٌ قوي، وجَسَّدت هذه التحركات البدايةَ الحقيقيةَ والفعليةَ لِتَغلغُل .الرأسمال الفرنسيِّ بالمغرب وسقوطِه في فخ “الحماية الفرنسية”
أمام كل ما أوردناه سابقًا في هذا المقال، نَخْلُصُ في الأخير إلى أن القرض الماليَّ الذي تحصل عليه المخزن سنة 1904م من البنوك الفرنسية بإشراف حكومتها كان كفيلًا بالسيطرةِ .على ماليَّة المغرب وتقويةِ المصالح الفرنسية على حساب مصالحِ باقي الأوروبيين
لقد كانت حكومةُ باريسَ ناجحةً في إستراتيجيتها عندما جَيَّشَتْ مجموعاتِها المالية العملاقةَ لغزوِ الأسواق المغربية برساميل هائلة، واستثمارها في تأسيس فروعٍ لها بالمملكة، كالشركة المغربية سنة 1902م، وهي تمثل مصالح شركة شنايدر والبنك الباريسي، ثم البنك المخزني سنة 1907م الذي استغلَّته فرنسا لإبعاد المخزن عن التحكم في سياسته المالية، دون إغفال ذكر تأسيس الشركة العامة سنة 1912م المملوكة لعائلة “آل روتشيلد” برأسمالِها الضخم .ونفوذِها في العالم
هذه الشركات الكبرى استفادت من الامتيازات الاقتصادية والمالية المغربية، مثل ضَعْفِ الضرائب والأجور والتكاليفِ الاجتماعية، وغِيابِ المراقبة الجِبَائِيَّة، وتركـزت أغلبُ نشاطاتها في الاستثمارِ وتمويلِ الأشغال الكبرى بالمغرب، والاستحواذِ على أقوى القطاعات الحيوية آنذاك؛ كالسككِ الحديدية، وتوزيع الماء والكهرباء و إنتاجه ، وتجميع المنتجات المحلية، والصناعات الاستخراجية، والصناعات الخفيفة والتحويلية، وإنجاز الأشغال الكبرى
وهذا ما جعلها تحقق أرباحًا مفرطةً، كان من الصعب عليها تحصيلُها بفرنسا بسبب التنظيم .العُمَّالِيِّ القائمِ هناك
كل هذه التطورات التي أنتجتها اتفاقية قرض سنة 1904م – سواء بشكل مباشر أو غير مباشر – جعلَتْ لفرنسا نفوذًا اقتصاديًّا قويًّا بالمملكة، أصبح معها الاقتصاد المغربي تَبَعِيًّا للرأسمالية الفرنسية، وما زالت تبعات ذلك مؤثِّرَةً على السياسة المالية والاقتصادية المغربية رغم مرور أَزْيَدَ من قرن.
—————————————-
المراجع المعتمدة في كتابة المقال:
تاريخ المغرب تحيين وتركيب، ص 445، إشراف وتقديم د. محمد القبلي
المغرب عبر التاريخ، جزء 4، ص 121، تأليف د. إبراهيم حركات
ثورة بوحمارة 1902-1909 م، ص 68، كريدية إبراهيم
المغرب والاستعمار حصيلة السيطرة الفرنسية، ألبير عياش