الكاتبة اليونانية بيرسا كوموتسي مع نجيب محفوظ في شوارع القاهرة
تتخذ من أعماله رمزا للجزء المصري في هويتها المزدوجة
النشرة الدولية –
في حياة كل إنسان تأتي مثل تلك اللحظة، التي تقول عنها الرواية “لحظة الذكريات وإعادة تعريف الأشياء.. لحظة الاعتراف الكبير”، تؤكد الكاتبة اليونانية بيرسا كوموتسي على أنها لم تخطط لروايتها “في شوارع القاهرة.. نزهة مع نجيب محفوظ”، تلك اللحظة لا تجىء عمدا، “كيف زحفت هذه الفكرة إلى عقلي من حيث لا أدري؟ أن أنبش في الذكريات المدفونة من عشرات السنين، وقد غطاها ركام النسيان”.
هكذا انبثقت ذكرياتها فجأة لتشكل فصول الرواية التي تستدعي فيها أحداث طفولتها وصباها وشرخ شبابها، وقد عاشت هذه المراحل كلها في القاهرة كطفلة تنتمي للجالية اليونانية في مصر، وكما نبشت في الذكريات فتشت عن الدافع لكتابتها فتوصلت إلى أن الكتابة عن سيرتها الذاتية وخصوصا عن فترتي طفولتها ومراهقتها كانت بمثابة التشريح في الظلام لأعماق ذاتها المجهولة، كما مثلت الكتابة لها وسيلة للتعامل مع حزنها تأسيا بقول نجيب محفوظ: “عندما يعاني المرء اليأس أو الحزن، عادة ما تكون الكتابة غايته وملاذه”.
وهكذا تبدأ، ومنذ العنوان ثم مفتتح الرواية، في المزج بين سيرتها الذاتية وبين سيرة موازية تكتبها لنجيب محفوظ، وعمدت على أن تفتتح كل فصل من فصول روايتها السيرية بمقتبس من إحدى الروايات التي ترجمتها لنجيب محفوظ إلى اليونانية، ولم تكن الاختيارات عشوائية، بل كان كل مقتبس منها بمثابة المفتاح للفصل الذي بدأ به، فمثلا بدأت الفصل الذي حكت فيه عن عودتها إلى اليونان بعدما تخرجت في جامعة القاهرة، وكانت تعتبر مصر وطنها وليس اليونان، بجملة من إحدى روايات محفوظ هي “تغير مفهوم الوطن ومضمونه، فلم يعد أرضا ذات حدود معينة، ولكن بيئة روحية تحدها الآراء والمعتقدات”. فكانت مقولات الكاتب بمثابة الروابط التي وصلت بين السيرتين. ليشكلان معا رواية هي لوحة فسيفساء تجمع بين الشخصيتين، ورسمتها الذكريات بريشة التداعي.
كانت تنتظر موعد الاجتماع الأسبوعي لتصافحه وتبادله ابتسامات المودة، وذات مرة سألها عن اسمها فعقب بأنه ليس اسما مصريا وكان يظنها مصرية، فكشفت له بخجل عن سرها، وأنها يونانية
وُلدت بيرسا كومتسي في مصر، والتحقت بكلية الآداب، قسم لغة إنجليزية بجامعة القاهرة، فظروف الحرب العالمية الأولى وسوء الأوضاع الاقتصادية في قبرص، دفعت عائلتها إلى الاستقرار في مصر. ولا تبدو بيرسا كوموتسي كيونانية عاشت في مصر بقدر ما تبدو كمصرية من أصل يوناني، ففي روايتها “في شوارع القاهرة.. نزهة مع نجيب محفوظ” التي ترجمها إلى العربية خالد رؤوف، وصدرت ضمن سلسلة الجوائز عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في 2017 ، تصف مصر كثيرا بأنها “الوطن” أو “وطن قلبي”، وحينما استعادت ذكريات طفولتها عن حرب يونيو/حزيران 67، تتذكر بكاءها على شهيدين من أبناء الجيران، تقول “لم أعش حدثا في حياتي أكثر حزنا من هذا، كان حدثا أيقظ بداخلي أحاسيس لم أكن أعرفها من قبل”.
وفي موضع آخر تقول “كان الحزن في الأجواء عارما، لم أشعر بحزن كهذا بعد ذلك”، وحينما تبدأ الأحوال في التغير ويبدأ الأجانب في الرحيل عن مصر، وكلما غاب أحد زملائها في المدرسة اليونانية بالقاهرة يقال لها: عاد إلى الوطن، فيكون ردها: إلى أي وطن؟ وطننا هو مصر.. أليس كذلك؟”.
أما الحدث الأكبر الذي زلزل هويتها المزدوجة وكاد يشرخها، فهو ما تلا اغتيال الأديب يوسف السباعي في قبرص في فبراير/شباط من عام 1978، فالقتلة اختطفوا عددا من الرهائن واستقلوا طائرة قبرصية رفضت كل المطارات استقبالها فعادت إلى قبرص، فأمر الرئيس السادات بإرسال كتيبة من الصاعقة المصرية لتحرير الرهائن وأسر المختطفين، لكن الحرس القبرصي دمر الطائرة ومات عدد من أفراد كتيبة الصاعقة، وتم قطع العلاقات بين الدولتين، هنا لا تصف كوموتسي القتلى بالشهداء كما وصفت شهداء 67، بل قالت “لقوا حتفهم”، وفي اليوم التالي واجهت ما وصفته بالرفض، لأول مرة في حياتها، فبعض زملائها من طلبة جامعة القاهرة رأوها للمرة الأولى كيونانية تنتمي لمن قتلوا الجنود في قبرص، ووصفها أحدهم بأنها دخيلة، وكاد الموقف يتأزم لولا أن تدخل أحد الأساتذة الذي أمر الطلبة بالانصراف وسمح لها بالدخول، الغريب أن كوموتسي نسيت اسم الدكتور الذي أنقذها ودرس لها لعامين، لكن لم تنس الشبه الذي وجدته بينه وبين شخصية الدكتور إبراهيم عقل في رواية “المرايا”، وهي تفعل ذلك دائما، “أضاهي الشخصيات التي أعرفها في حياتي في مصر مع شخصيات من روايات محفوظ، فقد كانت جميعها مرآة للحقيقة”.
والحقيقة أنها اتخذت من نجيب محفوظ وأعماله رمزا للجزء المصري في هويتها المزدوجة، ربما لذلك لم تذكر اسمه إلا في العنوان بينما أشارت له في الفصول كلها باعتباره “المعلم الكبير”، بما يتلاءم مع الصورة الأسطورية التي رسمتها له فبالرغم من ظهوره النادر كشخصية في الرواية إلا أن مقولاته وأثره النفسي عليها شكلا مسار حياتها وروايتها، حتى أنها تصفه بأنه أبيها الروحي.
يبدو نجيب محفوظ في الرواية كطيف، مما يدفع القارىء للتساؤل عن وجوده في حياة صاحبة السيرة وهل هو حقيقي أم متخيل؟ وهي في نصها تعترف: “عندما كان يوجه إلي هذا السؤال بالتحديد – هل عرفته؟ – كنت أصمت أو كنت أجيب تقريبا وأنا أتلعثم في كلمة نعم، عندما قابلته.”
أما قصة اللقاء فترجع لانتقال أسرة كوموتسي للسكن في شارع مراد بالجيزة بعدما كانت تسكن بشارع الهرم حيث ولدت، سكنوا شقة في بناية ذات خمسة طوابق، تواجهها بناية أخرى تصفها بأنها أسطورية، كانت تتبع وزارة الثقافة، وتشهد اجتماعات للأدباء والمفكرين، وهناك رأت نجيب محفوظ ، لم تكن تعرفه لكن رفيق صباها وحبها الأول كان يعرفه، فـأخبرها عنه وأهداها كتبه ذاكرا الأفلام والمسلسلات المأخوذة عنها، تصفه قائلة: “ميزت رجلا أسمر اللون طويلا بوجه مظلم، ملامحه مصرية جدا خلف نظارته السميكة وعلى وجهه ابتسامة بريئة لا تنطفىء أبدا، …، ميزته لأنه في كل مرة كان ينزل من السيارة، كان البستاني يحييه بسرور ودفء كما لو كانا صديقين حميمين”. الطيبة والتواضع دفعا محفوظ لتحية البستاني ولمداعبة الطفلة ورفيقها، “كان يمد يده لنا ليصافحنا بمودة”، فكانت تنتظر موعد الاجتماع الأسبوعي لتصافحه وتبادله ابتسامات المودة، وذات مرة سألها عن اسمها فعقب بأنه ليس اسما مصريا وكان يظنها مصرية، فكشفت له بخجل عن سرها، وأنها يونانية. وبعد سنوات يحضر محفوظ بشكل واقعيّ عندما تتذكر الندوة التي نظمتها كلية الآداب مع محفوظ وكانت بيرسا طالبة بالكلية، تقول عن ذلك اليوم اخترقتني كلماته وتركت روحي في تأثر غير مسبوق؛ آثار على طريق عذراء لم تُكتشف من قبل ولم تُمحَ قط، على العكس ازدادت ونمت، حتى بعد سنوات طويلة في ما بعد لم أعُد أستطيع أن أعرف أين تنتهي فكرته وأين تبدأ فكرتي”.