لا فكاك للعلاقات الاستراتيجية مع السعودية
إحسان الفقيه –
الدور الأمريكي الذي يعد هو الأهم في قضية مقتل الصحفي جمال خاشقجي، لا يزال عرضة لتجاذبات دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة والمقاربة “الجائرة” بين ما تدعيه من قيم أخلاقية ومعايير الحرص على حقوق الإنسان، وبين واقع أن الأساس الذي يركن إليه صناع القرار يعتمد تغليب مصالح الولايات المتحدة الإستراتيجية على ما سواها.
طيلة عامين، ربط دونالد ترامب معظم سياساته في المنطقة بعلاقاته مع السعودية، واختار الرياض محطة أولى لأول جولة خارجية قام بها بعد وصوله إلى البيت الأبيض، في دلالة على أهمية المملكة لإدارته وللولايات المتحدة؛ كما أن صهره جاريد كوشنير هو الآخر يلعب أدوارا مهمة بصياغة علاقات البلدين من خلال العلاقة الوثيقة التي تربطه بولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
لا شك أن هناك رؤية خاصة لدى الرئيس الأمريكي تتعلق بعلاقات بلاده مع المملكة العربية السعودية، كانعكاس للتنافس بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري داخل الكونغرس، حيث يشدد معظم أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب من الحزب الديموقراطي وقلة من الحزب الجمهوري على ضرورة “إعادة تقييم العلاقات مع السعودية”، واتخاذ الولايات المتحدة موقفا أكثر “حزما” ضد المملكة العربية السعودية.
تأتي هذه المواقف خلافا لتوجهات الرئيس دونالد ترامب الذي يعتقد انه سيكتفي بالعقوبات التي فرضتها وزارة المالية الأمريكية على 17 شخصا سعوديا، أو عقوبات أخرى إذا كانت تتفق مع مقتضيات الأمن القومي الأمريكي والمصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة في علاقاتها مع السعودية في مكافحة الإرهاب والتصدي للنفوذ الإيراني وما يتعلق بسوق النفط العالمي ومبادرة السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
ويتمسك الرئيس ترامب بالعلاقات مع السعودية وبقاءها “شريكا ثابتا” لضمان مصالح بلاده “وإسرائيل وجميع الشركاء الآخرين في المنطقة”، وهو هدف يعتقد أنه يقود للقضاء التام على “الإرهاب في جميع أنحاء العالم”.
البيان الذي صدر عن البيت الأبيض، مساء الثلاثاء 20 نوفمبر/ تشرين الثاني، على لسان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أكد على أن العلاقات بين البلدين “لن تخرج عن مسارها”؛ وهي علاقات وصفها وزير الخارجية الأمريكي جورج بومبيو، بعد بيان البيت الأبيض بأنها “شراكة تاريخية”، وأن الرئيس ترامب سيستمر في التشبث بالعلاقات مع المملكة العربية السعودية.
الرئيس دونالد ترامب في بيان البيت الأبيض أكد على أنه “سيدرس الأفكار التي يطرحها أعضاء الكونغرس بخصوص السعودية شرط توافقها مع أمن الولايات المتحدة”.
وتحاول إدارة الرئيس الأمريكي تجاوز أي مخاوف تشير إلى تورط ولي العهد بمقتل جمال خاشقجي عبر بيان البيت الأبيض الذي يؤكد على التمسك بعدم خروج العلاقات بين البلدين عن “مسارها”، ما قد يثير غضب أعضاء في الكونغرس ودول أوروبية حليفة للولايات المتحدة تضغط باتجاه تحميل ولي العهد المسؤولية المباشرة عن مقتل خاشقجي.
مسؤول في الخارجية الأمريكية كشف لشبكة “”إيه بي سي” الأمريكية في البيت الأبيض، أنه اطلع على نسخة من تقرير وكالة المخابرات الأمريكي (سي آي إيه) خلص إلى أن ولي العهد السعودي “أمر بقتل الصحفي السعودي” معتبرا أن هذا “أمر بديهي”.
لكن، وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، في تصريحات سبقت بيان البيت الأبيض أدلى بها لصحيفة “الشرق الأوسط”، الثلاثاء 20 نوفمبر/تشرين الثاني، اعتبر ما يتم تداوله عن “استنتاج” توصلت إليه وكالة المخابرات الأمريكية أفادت بأن ولي العهد “أمر” بقتل خاشقجي، مزاعم “لا أساس لها من الصحة تماما”؛ الجبير عدّ “الاستنتاج” مجرد “تسريبات لم يعلن عنها بشكل رسمي”، وهي “مبنية على تقييم، وليس أدلة قطعية”.
وليس بعيدا عن فحوى كلام الوزير الجبير، تحدث بيان البيت الأبيض، الثلاثاء، عن أن الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية “ستواصل تقييم كل المعلومات المتعلقة بمقتل خاشقجي”، في حالة من عدم “اليقين” بمعرفة “الحقائق المحيطة بجريمة قتل جمال خاشقجي”.
لم يجزم بيان البيت الأبيض بمسؤولية ولي العهد “المباشرة” عن مقتل جمال خاشقجي بشكل قاطع، بينما ترك الباب مفتوحا لمزيد من التكهنات التي من بينها، وفقا للبيان، “احتمال كبير أن يكون ولي العهد على علم بهذا الحادث المأساوي”، مع التشديد على أنه “ربما كان يعلم وربما لم يكن يعلم”.
إلا أن ترامب في آخر موقف له، لا يستبعد أن يكون “ولي العهد السعودي كان لديه علم بهذا الحادث المأساوي” مستندا إلى مواصلة أجهزة المخابرات الأمريكية تقييم المعلومات المتاحة لديها بشأن مقتل خاشقجي.
قد تكون المرة الأولى التي يتحدث فيها الرئيس الأمريكي تاركا مسافة كبيرة في العلاقات مع السعودية بين المملكة وولي عهدها، قد يفهم منه ابتعاده بشكل ما عن “التمسك” بالعلاقة مع ولي العهد والتركيز على العلاقات مع الدولة السعودية التي ينظر إليها على نطاق واسع أنها رهن “إرادة” وقرارات ولي العهد الذي يمسك بأهم مفاصل الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية.
غير أنه في الوقت ذاته، لا تنوي الولايات المتحدة، وفقا لبيان البيت الأبيض، الثلاثاء 20 نوفمبر/تشرين الثاني، إلغاء العقود العسكرية مع الرياض لأن ذلك “حماقة” ستكون “روسيا والصين أكبر المستفيدين” من ذلك.
وتعتزم الولايات المتحدة “أن تبقى شريكا راسخا للسعودية”، كون العلاقات معها هي ليست مع شخص ولي العهد إنما مع “المملكة العربية السعودية”، في عزل واضح بين التعامل الأمريكي مع دول ومع أشخاص، مثل ولي العهد الذي يرتبط بعلاقات وثيقة مع جاريد كوشنير المكلف بملف السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين والذي يعوّل كثيرا على ولي العهد لإتمام ما يعرف بـ “صفقة القرن” التي تراجعت بعض خطواتها في أعقاب قرار الرئيس الأمريكي بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إليها.
في كل الأحوال، فإن قضية مقتل جمال خاشقجي دخلت منعطفا فارقا مع “استخلاص” وكالة المخابرات الأمريكية بأن ولي العهد هو من “أمر” بقتل خاشقجي، خلافا للرواية الرسمية السعودية التي طالما نفت علاقته بالجريمة.
لكن يبقى موقف الرئيس الأمريكي بعد “استخلاص” وكالة المخابرات الأمريكية وكيفية تعاطيه مع الدولة السعودية وولي عهدها مع اتجاه في الرأي العام الدولي ينحو قليلا باتجاه “تكذيب” أية رواية رسمية سعودية تستبعد مسؤولية محمد بن سلمان المباشرة عن مقتل جمال خاشقجي.
والأهم من كل ذلك، تبقى المصالح الاقتصادية والعلاقات الإستراتيجية بين الولايات المتحدة والسعودية والحفاظ عليها لخدمة المصالح الأمريكية في المقام الأول الذي يتقدم على ما سواه لدى راسمي السياسات الخارجية الأمريكية من الدائرة المحيطة بالرئيس الأمريكي، والذي أكد في آخر مواقفه المعلنة ببيان عن البيت الأبيض، الثلاثاء، على أن الولايات المتحدة “تعتزم أن تظل شريكا راسخا للسعودية”.