الفرد بين التمرد أو الخضوع لسلطة الجماعة أو الأغلبية!

       بقلم الكاتب وليد بليلة من المغرب

 

يجمع الكثيرون على أن الإنسان اجتماعي بطبعه، وأن له ميولا جامحا نحو العيش ضمن الجماعة، إلا أن مسار تاريخ المجتمعات البشرية يشهد دائما صراعا بين الأفراد و الجماعة، بين الأقلية والأغلبية، بين الرغبة في التمرد على الأعراف التي تجسد المنظومة الحمائية للجماعة، وبين الرغبة في فرض السلطة وضمان استمرار الموروثات وترسيخها.

وربما يعتقد البعض أن الجماعة بفضل سلطتها دائما ما تتغلب على تمرد الأفراد و تنجح في الحد من نشاطهم خارج النمط المتعارف عليه، إلا أن ذلك رأي خاطئ نسبيا، حيث أن الأقلية دائما ما تسعى إلى تفكيك معتقدات وسلوكات الأغلبية وإعادة تشكيلها من جديد لتخلق أغلبية جديدة، وهذا ما يسمح باستمرار التطور المجتمعاتي موازاة مع سيرورة التاريخ .

 الأغلبية أو الجماعة : الرغبة في ضمان امتثال وخضوع الافراد

التكوين المجتمعي الإنساني منذ القدم يعمل بشكل لاشعوري على نسج ذهنيات وسلوكيات ومعتقدات جماعية وفق توافقات اجتماعية تنتج سلطة للأغلبية التي تعتبر أن أي دعوة لتجديد تلك الذهنيات والمعتقدات هي تمرد وخروج عن الجماعة وموروثاتها .

تكتسب الأغلبية سلطتها من تماسك العوام أو الجماهير وتوافقهم حول تفكير جماعي معين وبذلك يتعزز لديهم إحساس مشترك يشوبه الفخر بالإنتماء إلى الجماعة. ويذهب الجماهير إلى التصديق بأن السلوكات و المعتقدات الجماعية تكون صحيحة بأكملها ولا يمكن التشكيك في صحتها وهو ما يعكس حسب علم النفس الإجتماعي حالة التأثير التي تصيب العقل الجمعي.

ويحدث عند ذلك الانصياع والامتثال للجماعة، حتى أن الفرد يعمل على أن يكون ما يقوم به مقبولا لدى الآخرين ويلتزم بالحرص على أن لا يخرج عن الإطار المتوافق عليه بينهم وهو ما يؤثر سلبا ويحول دون تحسين السلوكيات والذهنيات وتجديدها. و بالتالي يستمر التقليد والمحاكاة والجمود  .Conformity  وهو ما يعرف في علم النفس بالإمتثال أو الإمعية.

منذ النصف الثاني من القرن العشرين خاض مجموعة من علماء النفس دراسات وتجارب على غرار (صولومون آش ) التي خلص من خلالها إلى أن الفرد يخضع إلى رأي الاغلبية استنادا الى سببين، أولهما هو الرغبة في القبول من قبل المجموعة تفاديا للضغط التي تنتجه عليه وهو ما يسمى بالتأثير الاجتماعي المعياري .والثاني يتجسد في الرغبة في أن يكون على حق والتي تجعله ينظر للمجموعة على أنها مصدر للمعلومات الدقيقة و الموثوقة وهي المسماة بالتأثير الاجتماعي المعلوماتي .

الأقلية او الافراد : التمرد على النمط السائد و الشائع

رغم خضوع الأفراد لسلطة الجماعة وما تفرضه من أنماط سلوكية وضوابط لحريات الافراد، إلا أن أقلية منهم يخالفون ذلك ويخرقون نسق ذهنية العقل الجمعي، ويعود ذلك إلى رغبة الانسان منذ فجر التاريخ الى الابداع والابتكار وتطوير السلوكيات والعادات حتى قبل أن يخلق توافق لبلورة مفهوم المجتمع .

يعتبر الانبياء والفلاسفة وكبار المفكرين أكثر الأفراد خروجا على السائد من المعتقدات والسلوكات التي تنتهجها وتعتنقها الجماعات، حيث يقوم هؤلاء بمهمة ابتكار بديل لما هو شائع، ثم محاولة جعل الجماهير يتبنون فكره لخلق سائد جديد. وهذا ما يجعلهم عرضة لردود فعل الاغلبية الذين يعتبرونهم خصوما .

يطلق البعض على الأفراد (الأقلية) لقب ” الإستثنائيين “، إلا ان تصنيف الفرد كإستثنائي يستلزم إمتلاكه لكفاءات وقدرات تجعله يحطم الأنماط المتوارثة من السلوكيات والذهنيات، ويتحرر من تأثير الجماعة عليه، وهو ما ليس بالأمر السهل على الاطلاق بالنظر الى الطبيعة الانسانية.

وتعد امكانية نجاح الافراد في محاولاتهم نادرة الحدوث في فترات حياتهم. وأغلب الافراد الاستثنائيين ينجحون بعد مماتهم، حيث يحاربون وتحارب أفكارهم ويتم إقصاؤهم وتهميشهم بطرق ذكية تجعل الجماهير- مغيبين – ينعتونهم بالمتمردين الخارجين عن فكر الجماعة الصحيح، وتستثمر الاغلبية سلطتها الاجتماعية لكي تكيل الاتهامات القاتلة الكابحة لأصوات الاقلية وقد يتحول الأمر من عنف معنوي الى جسدي كالتعذيب و القتل و الإيذاء…

ولا ينجحون الا بعد ان تبدأ افكارهم في الانتشار شيئا فشيئا عبر تلامذتهم و أنصارهم الذي يتقاطرون في الخروج من النسق الأغلبي الجماعي، ثم تتواصل عملية التحول إلى الوصول لمرحلة إعادة تشكيل فكر أغلبية جديد يتأسس على ما اعتبر سابقا فكر الاقلية .

الحقيقة أن هذا الصراع الثنائي ما بين  “الأقلية – الاغلبية” يمكن اعتباره احد اسباب استمرار التطور المجتمعي و ضمان دينامية الافكار البشرية وفعاليتها في تجديد العادات والنظم والأنساق السوسيوثقافية المتوارثة، والحيلولة دون تجميد الإنتاج الفكري الانساني .

زر الذهاب إلى الأعلى