ملامح الرفض في الشعر النسائي التونسي* الشّاعرة التونسية سلوى الرابحي

النشرة الدولية –

في ظل التغيرات التي يشهدها العالم اليوم، عالم تيبّس كالصخرة الجامدة، عالم تكلّست فيه المشاعر ونبتت في شقوق صخورها أشواك الرفض تحاول أن تنبّت الشعور ولو كان ألما.شوك تشكّل قصائدلرفض كل ما من شأنه أن يخرج الإنسان من الشعور والحلم والخيال والمعنى. فخاض معركة إثبات الوجود في زمن طغت فيه المادة والنفعية و”لا يكون الدارس مبالغا إذا ما رأى أن الشعر ذاته، منذ تاريخ وجوده إلى يومنا هذا، لم يقترن في مضامينه بظاهرة من الظواهر قدر اقترانه بالرفض”[i].

ولم تكن المرأة الشاعرة بمنأى عن هذا الرفض، بل كان رفضها مزدوجا، رفض لإثبات هويتيها الأنثوية والشعريّة في آن معا. رفض كان نتيجة وعي بضبابية هويتها في مجتمع تعكس مرآته هشاشة راهن المرأة ككائن مبدع.

وتعتبر تونس من البلدان التي تحاول فيه المرأة الشاعرة أن تثبت ذاتها ككائن مستقل وفاعل في المشهد الشعري التونسي والعربي. فقد رفضت أن تكون “عورة أدبيّة” أو “عورة شعريّة” أو أن تكتب ضمن الأعراف خاضعة لمفهومي “التحريم” و”التجريم” فكشفت جسدها الشعري وغطّته بما حاكه الفكر والقلب من مجاز واختارت أن يتبعها الغاوون، محاولة بذلك التأسيس لأعراف جديدة في الكتابة.

في هذا الإطار وسمته موضوع دراستنا بـ” ملامح الرفض في الشعر النسائي التونسي” رغم ما يحمله مصطلح الشعر النسائي من إشكال في التعريف والاعتراف به كمصطلح علمي وأدبي. فالتسميات متعدّدة بين شعر المرأة والشعر الأنثوي والشعر النسائي والشعر النسوي  ويستند معارضو هذا المصطلح إلى أنّ الأدب إنساني صرف غير قابل للتصنيف الجندري، فهو “وسيلة من وسائل التحرّر ومحاولة للتخلّص من الوضع الفئوي”[ii]. ووفق أصحاب التوجّه المعارض المذكور تجعل هذه التسمية من أدب المرأة هامشيا لا في مركز الأدب الإنساني. وهو ما يعني أنّ القول بوجود شعر نسائي يفترض أن يكون هناك شعر رجالي، فبالنسبة إليهم فإنّ “الاشتغال في مجالٍ أرحبٍ، مما يخوّل تجاوز عقبة الفعل الاعتباطي في تصنيف الإبداع احتكاما لعوامل خارجية على غرار جنس المبدع”[iii].

ومع ذلك ذهبنا إلى اعتماد مصطلح الشعر النسائي لما ينبئ من خصوصية الرّفض في شعر الشاعرات التونسيّات محلّ الدراسة.

وتستعرض الدراسة نماذج من الشعر النسائي التونسي، بما تتضمّنه من تفرّد وتميّز في النصوص وعمق في الدلالة ورفض للخنوع والسلبية. وقد اخترنا سبع شاعرات هنّ: فاطمة بن فضيلة[iv] وفوزية العلوي[v] وفاطمة عكاشة[vi] وسنية المدوري[vii]. وفوزية العكرمي[viii] وسندس بكار[ix] وراضية الشهايبي[x].

ومن ثمّة رصدت الدراسة ما في النصوص الشعرية المختارة من ملامح مختلفة للرفض، لكن قبل ذلك كان لابد من تعريف الرفض، فما هو الرفض وما هي أهم معانيه في الشعر النسائي التونسي؟

الرفض لغة واصطلاحا:

لغـة: ورد في لسان العرب لابن منظور: الرَّفْضُ: تركُكَ الشيءَ. تقول: رَفَضَني فَرَفَضْتُه، رَفَضْتُ الشيءَ أَرْفُضُه وأَرفِضُه رَفْضاً ورَفَضاً: تركتُه وفَرَّقْتُه (….) وارْفَضَّ الدَّمْعُ ارْفِضاضاً وتَرَفَّض: سالَ وتفَرَّق وتتابَعَ سَيَلانُه وقَطَرانُه. وتَرَفَّضَ الشيءُ إِذا تكسّر. ورَفَضْت الشيء أَرْفُضُه وأَرْفِضُه. ورُفُوضُ الأَرضِ: المَواضِع التي لا تُمْلَك والرّوافِضُ: جنود تركوا قائدهم وانصرفوا فكل طائفة منهم رافِضةٌ، والرَّفْضُ: أَن يَطْرُدَ الرجل غنمه وإِبله إِلى حيث يَهْوى، فإِذا بَلَغَتْ لَها عنها وتركها. والرَّفَضُ: النَّعَمُالمُتَبَدِّدُ. والرَّفْضُ: القُوت، مأْخوذ من الرَّفْضِ الذي هو القليل من الماء واللبن[xi].

انطلاقا من هذا المفهوم نستخلص أن الرفض هو الترك الذي يحمل معنى الكسر وتبدد النّعم.

اصطلاحا:

من هنا نفهم أن الرفض مخالف للسلبية والخضوع والرضا بالواقع بحثا عن بديل فهو ليس غاية في حد ذاته وليس رفضا لمجرد الرفض. وللرفض مفاهيم مجاورة كالتمرد والثورة و”الثورة في رأي ألبار كامي كانت نتيجة منطقية لا مفر منها للتمرد، وعلى حين أن التمرد هو في حقيقته موقف ذهني أو عقلي فحسب فإن الثورة إنما هي تطبيق سليم لمفاهيم التمرد”[xii]

الشعر هو أن تقول لا:

الشعر هو أن تقول لا لما هو سائد، هو رفض الهزيمة والتغييب والتهميش، هو رفض المكوث في بيت الطاعة الشعري، بيت يغطيها بلحاف الخجل، الشعر هو رفض أول للصمت، رفض للتعسف الذكوري والأبوي والمجتمعي والسياسي والأخلاقي والديني فكتبت الشاعرة التونسية توقها إلى الحرية بل وكانت رائدة في ذلك وبملامح الرفض صرخت غضبا. بألم الشعور بالإغتراب كتبت، بشعرية موحية ناحتة جمالية الغضب والنفي والإستفهام وقّعت هويّتها المتمردة. تقول الشاعرة فاطمة عكاشة في قصيدة جدد هواك :

أَنَا حُرَّةٌ لاَ تَخْدَعَنْكَ أسَاوِرِي

لِمْ كنْتَ أسْتَاذَ الخِدَاع ِلمَاذا؟

الشعر هو أيضا رغبة في التغيير، تغيير السائد من فكر وجسد ومكان ولون، هو رغبة في التجديد لتولد القصيدة من جديد، تقول سندس بكار:

يتّسع الحلم لأكثر من رغبة

كم أرغب في تغيير الأبيض حتى يصير بلون مياه “برّوطة”

كم أرغب في تغيير الأحمر حتى يصير بلون هزائم “صبرة ”

كم أرغب في تغيير الأخضر حتى يصير بلون أصابع “بول كلي ”

كم أرغب في تغييرك حتى تصيري بلون ذاكرتي

يا..مدينة لم تبق الا ..هي على بابها تتوضأ الحكمة بالخرافات

على سورها تجفّف الشمس ما تخفّى تحت جلد الكلمات[xiv]

رفض الرفض:

إن الذات الشاعرة ككائن مبدع وخلاق وباحث عن الإضافة ترفض قطعيا أن تكون مرفوضة و أن تعامل كعورة أدبية أو كموضوع للكتابة لا حق لها في كتابة ذاتها ، ذات شعرية لها لحظة مكاشفتها الشعرية، لها صورها الكثيفة ورؤاها وبديلها للواقع، لذا رفضت بعض الشاعرات الفحولة الشعرية  وسجن الخداع والمكر الذكوري فـ” فلسفة الرفض ليست إرادة سالبة، فهي لا تنطلق من تناقض يعارض دون أدلّة ويثير جدالات فارغة”[xv] مثال ذلك سنية المدوري التي تستدلّ بتعريفها كامرأة لتعلن رفضها لسجون الرجل:

أنا امرأةٌ من رَفيف الفراشاتِ

أنا امرأةٌ مِنْ مزيج الحضاراتِ

من نُطفَةِ الضّوء من غافياتِ العُصورْ…

أنا امرأةٌ، لا أطيقُ سُجونكَ

يا رجُلاً مِنْ خِداعٍ وزُورْ.

وللأنوثة فراشاتها وأجنحتها، الأنوثة حرية وطيران أيها القارئ إنها الخفقان  إنها رفض الموت المجفف  لماذا تدفن المرأة المحبة حيّة، لماذا؟

تقول الشاعرة فوزية العكرمي:

إنّ امرأة حِينَ تُحِبّ

تُدْفنُ حيَّةً

وأنَا الحيَّةُ التِي تَخلّصت من سُمومِها

لِتتذَوَّقَ دِفءَ المنادِيلِ الوَرَقِية كَفراشَةٍ مُجَفّفةٍ في دفاتِر الهُواة

مَابَيْنَ جُثَّتينِ أصْحُو

…لأكْتشِفَ كَمْ هُو مُحْزنٌ أَلّا نكُونَ معًا في كلّ الشتاءات

نَتنفَّسُ فِي قُبْلَةٍ

نَسِير في خُطْوة

كَمْ هُوَ مُحْزِنٌ أَنْ نَقِفَ على عتَباتِ الحَنِينِ كَشجَرةٍ تُبلِغُ الطّرِيقَ التحايا

لِتُشْفَى من خَيْباتِ الانتِظار ….

وقد انتهى رفض الرفض إلى مرحلة طالبت فيها الشاعرات بتأسيس مفاهيم جديدة للشعر، فحسب الشاعرة بن فضيلة:

الشعر أن تهب القصيدة قلبك

فازرع دماءك في الغمام

واحذر من الشعر المجفف

احذر جنون الانزلاق على الكلام

أما الشاعرة فوزية العلوي فاتخذت من ألف اللغة عصا لضرب كل ما من شأنه ان يمس من كتاباتها وحريتها والعصا هنا ليست دليل الأعمى في ظلمة الرؤية وإنما هي سلاح فاتن، فتنة الكتابة وليست فتنة الأنثى المكتوبة.  قائلة: ” قلمي عصاي٠٠٠ ومآربي ماليس يدرك حرف الحاء من ألق الحكايه٠٠٠ لي أن أريح تفاصيلي على ورق الكنايه٠٠٠ لي النّهايه إذا استعصت بداياتي عليْ٠٠٠ لي ما تبدّد من شعاع القلب شهبُ المجاز ٠٠٠ طلّ التشابيه البعيده ما أخطأ الشعراء على بوّابة المعنى لي فتنة المغنى إن أتلفوا ناياتهم٠٠٠ لي  من لظى كلِمي ما يكفي ليدفئني ولهم رمادي”

ولم تختلف عنهن الشاعرة فاطمة عكاشة في الإحتفاء بسحر الكتابة فهي تذهب إلى أن ما تكتبه من المعجزات يحدث العواصف ويثير الذهول.

قلمي تريض في رحاب عواصف

حفيت ذؤابته

يبيع الشعر سخرية مغلفة …

يبيع ملامحا تطفو لتغرق في ذهوله؟

وتقول أيضا مخاطبةالشعر رافضة الوصاية الأدبية

يَا أيها الشعر …اعترف. …

لا تنصرف

هم أوصياء على الكلام

وإننا سرب من الأنات

تطلقها الصدف..

وفي لحظة وعي أعلنت الشاعرة فوزية العكرمي رفضها للخنوع ، فالقصيدة روح الحرية وماؤها، تقول

أَيَّتها القَصِيدةُ

اِحْملِينِي لَحْظةَ ثُبُوتِ المَاءِ

واِنْسِدال البَرْدِ فِي الصَّقيعِ

فَلِي البِلادُ التِي شَرَّدَتْنِي

وَلِي صَلِيلُ الصَّخْرَةِ

والقُدْرة عَلَى ايقَافِها أَنَّى أَشاء

أَنا مَانَسِيتُ سِيرَة الظَّمأ

وَما أطْلَقْتُ دَمِي لِلرّياح

إِلّا لِأَجْلِكِ أَيتها الأرْضُ

لِأَجْلِ أَنْ تعْشَقِي وَجْهَكِ مرَّةً

وَتَسِيري فَوْقَ جُثَّتِي

بِكبْرِياء

كمت تمردت الشاعرة على الإستكانة ولو كانت جنة،

سأقول في جنّتي:

هَبْني عمرًا آخر

أريدُ أنْأُجرِّبَ  الجَحِيمَ

رفض ستر الجسد المكتوب: خوفا من التقييم الأخلاقي والتجريم الديني والمجتمعي للمرأة التي تنشد جسدها وجسد الرجل ظلت المرأة الشاعرة لزمن طويل حبيسة المعايير الأخلاقية لكنها خرجت من  جلد خاطه المجتمع لها وألبسها ثوب التقوى الشعرية فنزعت عنها صفة الجسد المخفي والمستور وأعلنت رغبتها وحبها وقبلاتها بل وحتى لحظاتها الحميمة واصفة انفعالاتها قارئة جسد الرجل وكاتبة له فتحول هو بدوره إلى جسد شعري تكتبه المرأة وتتلذذه. كتبت الشاعرة بن فضيلة، صدحت بالشهوة قالت:

سيكون لي خل وندمان

 

وعشاق كثر

سأفصل الدنيا

على كثبان جسمي

سوف أغزو، أشتهي، أشتاق أحنو

ستكون لي مدن وأقطار جديدة

شاعرة تعيد تشكيل العالم فالأنثى تعدد عشاقها وتكشف ضعف الذكور أمام جسدها المشتهى قائلة:

سأعيد تشكيل الذكور على مزاجي

سأؤثث الدنيا بما ملكت يميني

هذا غبيّ يشتهيني

ذاك مجنون بحبي…

هي تكتب سيرة الجسد الأنثوي، خطاياه وشهوته ورفضه للسكينة والصمت.

أما سنية المدوري فقد كتبت شهوتها وأعلنت عن حضور الجسد ونكست رايات غيابه وأعلنت رفضها لمكبلات العقل والتعقل.

لأنّي أخافُ عليكَ مِنَ الانْتظارِ

سأُخرسُ ساعاتِ هذا البَلدْ…

أُنكّسُ راياتِ عَقْلي لشهوةِ ليْلٍ طويلٍ

وأعْلنُ هذا الجسدْ..

الجسد، من هذا الجسد، هو بوابة الحلم والمتعة، باب يخرجك من الوحدة ، وحدها الوحدة آثمة. تقول الشاعرة راضية الشهايبي:

مثل وردة تشرب نداها

تتخيله ماء مثل ستارة تراقص تنهيدة عابرة

تحسبها نسيما

مثل طفل جائع يتلمس الخبز في صورة تهديها له الريح

أمد يدي ليد ظلي كي أبدد فكرة السير وحيدة

رفض اللغة:

“تأتي المرأة إلى اللغة بعد أن سيطر الرجل على كل الامكانات اللغوية وقرر ما هو حقيقي وما هو مجازي في الخطاب التعبيري، ولم تكن المرأة في هذا التكوين سوى مجاز رمزي أو مخيال ذهني يكتبه الرجل وينسجه حسب دواعيه البيانية و الحياتية “

من هنا كانت المرأة الشاعرة رافضة للغة ، لم تساهم في بلورتها فكانت لا تمثلها ، فحاولت انشاء لغة خاصة بها، لغة تشبهها، تشبه انفعالاتها، وفكرهاوأنوثتها، تقول الشاعرة فاطمة بن فضيلة:

احتاج الى لغة ظالمه

كي يدقّ الخريف مساميره

تحت جلدي الرّهيف

أحتاج إلى لغة آمره

كي أقول الذي لم تقله

الأنامل قبلي

أتوق إلى لغة ماكره

كي أقول يديك على جسدي

و حتّى أصوّر

ما تشتهيه شفاهك فوق فمي

وحتّى أصبّ دمي

على وحل هذا التراب الكفيف

كما تتمرد الشاعرة فوزية العلوي على التاريخ اللغوي، فهو بالضرورة تاريخ ذكوري، محاولة تأسيس لغة خاصة بها.

سأعيد ترتيب التاريخ اللغوي البائد

وأنسف كلّ أباطرة الحمإ المأفون

وحدي

سأنشئ أساطيري ومتون سلالاتي

وأمدّ تاريخي إلى أبعد من ذلك الفجر

سيزيف هذه المرّة

لن يكون حمّال شقاء

والصّخرة الصمّاء تلك

حتما ستبلغ الجهة المقابلة للشّمس…

اللغة، حمالة أصواتنا، آهاتنا، آلامنا فما بالك أن تكون لغة الجحيم، لغة من سعير، تقول الشاعرة راضية الشهايبي:

أرحلُ….

أتركُ جسدي معلقا في الشهيق

أتركُ أزرار القلب مفتوحة على لغة الجحيم

أتركُ الضمأ مستندا على نهر يسيح

أتركُ عطرا يتردد كي يفوح

 

الرفض السياسي ورفض الواقع الدموي

رفضت قصائدهن أن تكون بمعزل عن السياسي، فكتبن بشراسة قطة تدافع عن حياة أبنائها وتحررن من الخوف الذي أعتبر سمة من سمات الأنثى عموما والشاعرة خصوصا ، تلك التي كانت  سجينة الكتابات الحالمة العاشقة ، لا تخرج عن بوتقة الرجل الكامل، فجاءت نصوصهن عاصفة بالخوف ناقدة للسياسة متحررة من قضبان الرقابة الذاتية هادمة لحاجز الذل. ومن ذلك قول الشاعرة فوزية العلوي:

لم يرض يوما

أن يقلب التاريخْ

أو ينصت إلى

مكر الملوكْ

ياأيها القاسي نعمْ

ومفجّر الماء الذي شاء الاله

أن تشتهي قطراته

هذي الحقول،

هلاّ همست بما ألمت

أو فلتكنْ أقسى من الجبروتْ،

هلاّ جهرت بظلمهم

وبمن رموْا من ملحهم في عين هذي

الشمس

هلاّ عددت على الأصابع

أو فوق جدران المعاقلْ

كم من قرنفلة سبوْا

كم من سنابل أحرقوا في حلمها

كم من مواويل محوا

في قلب من كان على بال البلاد

ولم يزر جنّاتها؟

كم من عيون شرّدوا

كم من جفون أجبروا أهدابها

أن تستقيل…

تضيف في نص آخر:

ماذا نقول للوز يافا؟

لبحيرة ظلّت ترقّب موتها

لصبيّة ضاعت شرائط

لصهيل حيفا إذ يتعتعها الرّحيل؟

ماذا نقول لعشقه الدّامي

لقصيدة المنفي

ليمامة تركتهديلها بالجليل؟

ماذا نقول لأمّنا

وغطاء قلّتها رماه اللّيل،

وأصيص نعنعها تشتّت في الزّمان؟

ماذا نقول لجدّة سكبت دموعه[xxxii].

رهافة الشعر تجعل منك كائنا رافضا للدم المستباح. تقول الشاعرة فوزية العكرمي:

إذَا مَا اِمْتَلَأتْ كَأْسُكَ بالرَّمْلِ والرَّمَاد

وَجَالَت الكُؤُوسُ بَيْنَكُمْ مُتْرَعَةً بالسَّوَادِ

فَتَرَاكَضْتُمْ لِغَلَّةٍ مَوْبُوءَةٍ

وَتَسَابَقْتُمْ لِلحَصَاد

خُذُوا رُؤُوسَنَا واِرْحَلُوا

أَنْتُم الغُزَاةُ

وَنَحْنُ البِلَاد

أما فاطمة بن فضيلة فقد كتبت وجيعة الأمهات وألم وطن يفر منه أبناؤه إلى الموت رافضة هذا الواقع وكاشفة له، فباللهحة العامية أنشدت:

ا فلوكة خرجت مالمينا

قولولْيَمَّةْ رانا مشينا

يا ما في شوارعنا ضعنا

عيّطنا و لا حد سمعنا

ويا ما فَقرْ و يا ما عذابْ

وسنين بطالة عدينا

يا فلوكة بعدت عالشطْ

قولولْيَمَّة ْرانا تعبنا

تعرّينا ورجلينا حْفِتْ

والجوع الكافر عذبنا

الفلوكة بعدت يا يَمَّةْ

لا طير يتبّع لا لَمَّةْ

لا سَمْعو لا حَد خْلَط

رفض الموت

حيرت مسألة الموت الشعراء قديمهم وحديثهم ذكورهم وإناثهم “فلم تكن مشكلة الانتماء أو الهویةإلاّ واحدة من المشكلات الكبرى والكثیرة التي كانت تؤرق ضمیر الشّاعر القدیم وعقله وتقض علیه مضجعه كمشكلة الموت والفناء، ومشكلة الخلود وقد تكون مشكلة الموت من أعقد هذه المشكلات وأغمضها، فالموت تجربة فردیة ذاتیة”

الشعر حياة جديدة تكتب فكيف لكاتبها أن يرضى بالموت؟ الشعر رفض للموت وتجاوز له فهاهي فاطمة بن فضيلة تخاطبه شعرا وكأنه كائن قابل للتحدي والتمرد، كائن يمكن ان تقول له لا. كائن يمكن أن يصغي إليها حين قالت: أيها الموت تمهل قليلا إنني أكتب[xxxv] والشعر تأسيس للخلود حتى وإن ذهب الجسد هكذا كتبت الشاعرة سنية المدوري:

الحرْفُ هامَتُكَ الّتي لنْ تَنْثَنِي

إنْ غيّبوا منكَ الجسَدْ..

أبدًا سماؤُكَ باتّساع الحُلْمِ

يحدوهُ الأبَدْ..

ولم تختلف عنهما الشاعرة فوزية العكرمي في رفضها للموت  وإن اختلف الحلم والمجاز قائلة:

مِنْ غُرْفَةِ الإِنْعاشِ

يُطِلُّ إسْمِي

لِيحْمِلَ حُقُولَهُ وبَيادِرهُ عَلَى الأكْتافِ

وَيخْتَرِقَ قَطراتِ النَّدَى لِمسَافَاتٍ بعِيدَة

أما سندس بكار فقد ارتأت أن تجعل من الموت حياة، هو الرغبة التي تصل إلى حد الفناء. تقول:

الموتُ الذي أطبق على الوردة فجأة لم يكن رغبةً في الهروب من الغابة

كان مُجرّدَ تذوّق للموت فيكَ بأطراف باردة وقلب مشتعل بعيون مٌثقلة بالهزائم

وبعمر مرتّق كدمية قماش بجسد من حرير منهوش من كل الجهات

أطبق بعنف، ذاك الموت الذي تعرفُ كان رغبة في الصَّلب اللّذيذ على ذاك الجذع المقدس،

لم يكن هروبا من الغابة كان مجرّد رغبةِ تذوقِ المزيد من الموت فيك

إن رفض المرأة الشاعرة للقهر الذي مارسه الرجل والمجتمع عليها لمنعها من كتابة الشعر وفرض معاييرأخلاقية تحول دون تحررها يعتبر عنفا رمزيا، وهو ” عبارة عن عنف لطيف وعذب، وغير محسوس، وهو غير مرئي بالنسبة لضحاياه أنفسهم، وهو عنف يمارس عبر الطرائق والوسائل الرمزية الخالصة،أي: عبر التواصل، وتلقين المعرفة، وعلى وجه الخصوص عبر عملية التعرف والاعتراف، أو على الحدود القصوى للمشاعر والحميميات.

من هذا العنف أتى الرفض والتمرد على الذات والإخر والمجتمع والساسة لتأسيس عالم أفضل، عالم يشبه رؤى الشاعرات في جماله وحلمه ولذته. في حين يتشارك الرجل الشاعر مع المرأة في بعض الجوانب التي رفضها في كتاباته ولكن هل كان رفضه الشعري جريئا بقدر جرأة المرأة الشاعرة؟ هل يمكن الحديث اليوم عن جرأة شعرية أنثوية تتجاوز جرأة الرجل لأنها متأتية من القهر؟ هل كان الرجل حرا في كتاباته الشعرية؟ من هو المرفوض، وماهي آليات رفضه وتمرده؟

[i]– سعيد محمد، مجلة الآداب واللغات، جامعة فاصدي مرباح، ورقلة، الجزائر، العدد السابع، ماي 2008، ص131.

[ii]– رشيدة بن مسعود، المرأة والكتابة: سؤال الخصوصية/ بلاغة الاختلاف، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 1994، ص76.

[iii]– زهرة الجلاصي: النص المؤنث، دار سارس، تونس، (د.ط)، 2002، ص11.

[iv]– فاطمة بن فضيلة: أستاذة لغة وآداب فرنسية من مواليد سليانة، شاعرة وروائية ومترجمة ونقابية، أصدرت في الشعر: لماذا يخيفك عريي؟ من ثقب الروح أفيض، أرض الفطام. كما أصدرت رواية بعنوان: رواه العاشقان. وحصلت على جوائز عدة من بينها جائزة زبيدة بشير للشعر. كما مثلت تونس في العديد من المحافل العربي والدولية.

[v]-فوزية العلوي: من مواليد القصرين حائزة على الأستاذية في العربية من دار المعلمين العليا بتونس 1981 وماجستير في الأدب من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة 2009. تكتب القصة والشعر والنقد لها. لها ثمانية كتب منشورة في القصة القصيرة والشعر: علي ومهرة الريح 1995، برزخ طائر 1997، الخضاب 1999، حريق في المدينة الفاضلة 2001، طائر الخزف 2003، قربان الغياب 2010، حرّة 2013، لا مبالاة 2017. وهذا عدا عشرات النصوص والمقالات في العديد من الدوريات العربية. حصلت على جوائز عربية وعالمية في الأدب مثل جائزة نساء المتوسط بمرسيليا 1995، جائزة زبيدة بشير 2000 عن كتابها الخضاب وجائزة مؤسسة أندية الفتيات بالشارقة2001  عن كتابها حريق في المدينة الفاضلة. عملت في المجال المدني والتطوعي والحقوقي.

[vi]-فاطمة عكاشة: مِن مَواليد مدينة صفاقس حاصلةٌ على الأستاذية في اللغة العربية وآدابها. تعمل أستاذة تعليم ثانوي. نشرت قصائدها في العديد من الصحف والمجلات الوطنية والعربية الورقية، وكذلك في مواقع الكترونية عدّة. كما كانت لها مشاركات عديدة في برامج تلفزيونية وإذاعية. صدرت لها قصائد في كتابين جماعيين نشرتهما مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التونسية: الأول عنوانه: أزهار الألفية الثالثة، والثاني: واحد وعشرون لونا في سماء القصيد. حصلت على جوائز عديدة أهمها جائزة الطاهر الحداد 1998 عن مجموعتها الشعرية: بذرة ضوء سنة 1999، ثم ساهمت مع ثلة من الشاعرات والأديبات المغاربيات في إصدار كتاب: “إبداعات نسوية مغاربية. وتصدر لها قريبا مجموعة “الأنة المهملة”.

[vii]-سنية المدوري: أصدرت الشاعرة التونسية مجموعتين شعريتين الأولى «فردوس الكلمات» والثانية «القادم الوردي لي». وسبق أن فازت بالعديد من الجوائز منها جائزة المخطوط الشعري في مهرجان غار الملح سنة 2011 وجائزة نازك الملائكة للأدب السنوي بالعراق سنة 2013 وجائزة القوصية للشعر الفصيح بأسيوط المصرية سنة 2014 وجائزة أرابيا للشباب الإفريقي بالخرطوم سنة 2016 وجائزة الاستحقاق في مهرجان الفنون بإيطاليا. كما كان لها مشاركة مهمّة في أضخم مسابقة للشعر في العالم العربي وهي برنامج «أمير الشعراء» الذي تبثّه قناة أبوظبي ونالت فيه جائزة لجنة التحكيم.

[viii]– فوزية العكرمي: شاعرة تونسية، -عضوة بإتحاد الكتاب التونسيين، أستاذة الأدب و اللغة العربيةـ مؤسسة لجمعية ثقافة و فنونأسهمت في تأسيس العديد من النوادي الأدبية والثقافية (نادي الأسئلة بالمركز الثقافي الجامعي الحسين بوزيان فيما بين 1995/1997ونادي “محمد البقلوطيللابداع الأدبي يالمبيت الجامعي العمران الأعلى  1فيمابين 1991/1997 ونادي “مبدعون بلا حدود” بدار الثقافة عمّار فرحات بباجة سنة 2011/ 2012 وحاليا أنشط نادي “مجالس أدبية “بالمدرسة الاعدادية العياضي الباجي بباجة، -نشرت جل أعمالها بالصحف و المجلات التونسية و العربية، لها مشاركات في العديد من التظاهرات الأدبية و الفكرية الوطنية والعربية ، تمّ تكريمها في أكثر من ملتقى وطني وعربي، كُتب حول تجربتها الشعرية  العديد من المقالات أبرزها (كتاب ظلّ حلم صدر حديثا في ايران  للدكتور جمال نصاري ) وقريبا سيصدر ديوان شعري مشترك في كردستان بينها وبين الشاعر الكردي “فرمان هدايت.

[ix]– سندس بكار شاعرة تونسية اصيلة مدينة القيروان متحصلة على الاستاذية في علوم التربية تشتغل بالتعليم اصدرت مجموعة شعرية سنة 2003 بعنوان شهقة البدء ومجموعة شعرية ثانية بعنوان الظلال تلعب الغميضى سنة2009 ولها تحت الطبع مجموعة شعرية جديدة ومجموعة قصصية اشتغلت بالصحافة بجريدة المغرب التونسية ثم بجريدة اخر خبر شاركت في عدة ملتقيات شعرية دولية تونس الجزائر مصر المغرب واشرفت على منتدى بيت القصيد ببيت الشعر التونسي كما اسست مهرجان نوادي الابداع بالقيروان سنة 2002 واسست منتدى للشعر على صفحات جريدة المغرب

أصدرت مجموعة شعرية ثالثة بعنوان قبعة ضاقت عن رأسي سنة 2016. ترجمت نصوصها الى الإسبانية والفرنسية والإنجليزية والتركية والفارسية. وقع تكريمها بمدرسة “تيش”للفنون،جامعة نيويورك قسم الفن والسياسة العامة

إنهاء الدردشة

اكتب رسالة…

[x]– راضيةالشهايبي:  شاعرة تونسية ، صدر لها : ما تسرّب من صمتي / تراتيل الترحال/المسار الرقمي للروح/كتار القهوة/ارواح تائهة/ورواية شنقرارا

[xi] ابن منظور، لسان العرب، تحقيق: عبد الله علي الكبير، محمد أحمد حسب الله ھاشم محمد الشاذلي، دار المعارف،1981، مادة رفض.

[xii]فؤاد زكريا، الثورة والتمرد عند ألبار كامي، مجلة الفكر المعاصر، العدد الثالث، ماي 1965.

[xiii]فاطمة عكاشة، قصيدة جدد هواك، http://electronicreview.ejarida.com/article/29632

[xiv]– سندس بكار، الظلال تلعب الغميضة، مطبعة فن الطباعة، 2009.

[xv]غاستونباشلار: فلسفة الرفض. ترجمة د. خليل أحمد خليل. لبنان. بيروت. دار الحداثة. ط:1. السنة: 1985.ص 153

 

[xvi]سنية المدوري،، القادم الوردي لي، دار المنتدى، ، 2016ص14

[xvii]فاطمة بن فضيلة، أرض الفطام، الدار التونسية للكتاب، تونس، 2006، ص 28

[xviii]فوزية العلوي، قصيدة قلمي عصاي،https://fawziahaloui.wordpress.com/2011/05/18/%D9%82%D9%84%D9%85%D9%8A-%D8%B9%D8%B5%D8%A7%D9%8A-%D9%88%D9%85%D8%A2%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D9%85%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3-%D9%8A%D8%AF%D8%B1%D9%83-%D8%AD%D8%B1%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A7%D8%A1/#more-478

[xix]فاطمة عكاشة، https://web.facebook.com/fatma.okacha

[xx]فاطمة عكاشة، المصدر نفسه.

[xxi]– https://www.facebook.com/pg/%D8%B9%D8%A7%D8%B4%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%88%D8%B2%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%83%D8%B1%D9%85%D9%8A-465191630161495/posts/

–[xxii]http://acharaa.com/ar/278983

[xxiii]فاطمة بن فضيلة، من ثقب الروح أفيض الشركة التونسية للنشر وفنون الرسم، تونس، 2006، ص 34..

[xxiv]فاطمة بن فضيلة، المصدر نفسه.

[xxv]سنية المدوري، القادم الوردي لي، دار المنتدى، ، 2016ص8

[xxvi]– راضية الشهايبي، ارواح تائهة ، تونس ، 2015

[xxvii]عبد الله محمد الغذامي، المرأة واللغة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط3، 2006، ص7

-[xxviii]فاطمة بن فضيلة، أرض الفطام

 

[xxix] فوزية العلوي، قصيدة تاريخي الأوحد،

تاريخي الأوحد شعر فوزية العلوي تونس

 

[xxx]– https://www.intelligentsia.tn/%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%AD%D8%A8-%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%B1%D9%88%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%91%D8%A7%D8%B9%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D9%86%D8%B3%D9%8A%D9%91%D8%A9-%D8%B1%D8%A7/

[xxxi]فوزية العلوي، قصيدة الجلاد، https://fawziahaloui.wordpress.com/2011/04/29/%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%84%D8%A7%D9%91%D8%AF-%D8%B4%D9%87%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%B0%D8%A7%D9%83%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AC%D8%B1-%D9%81%D9%88%D8%B2%D9%8A%D8%A9-%D8%A7/#more-187

[xxxii] فوزية العلوي، قصيدة  إنا رأينا البرق من شرق يلبي،،

إناّ رأينا البرق من شرق يلبّي – شعر : فوزية العلوي .

[xxxiii]فاطمة بن فضيلة، قصيدة لا حد خلط،

https://web.facebook.com/fatma.benfdhila?ref=br_tf

 

[xxxiv]وهب أحمد رومیة، شعرنا القدیم و النقد الحدید، عالم المعرفة، الكویت، 1996، ص267.

[xxxv]فاطمة بن فضيلة، أرض الفطام، مسذ، ص4.

[xxxvi]سنية المدوري، الوردي القادم لي، م س ذ، ص63.

[xxxvii]ـ سندس بكار، قبعة ضاقت عن رأسي، نص أطراف باردة ، دار ميارة للنشر.-

[xxxviii]Pierre Bourdieu, La Domination masculine, Paris, Le Seuil, 1998, p 88.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى