فاليننشال تايمز: خسائر جسيمة لبريطانيا نتيجة انسحابها من الاتحاد الأوروبي
النشرة الدولية –
رغم إجماع معظم الدراسات الموثوق بحياديتها، على أن الاقتصاد البريطاني سيتعرض لخسائر جسيمة نتيجة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي “بريكست”، فإنها تتباين إزاء تقدير حجم تلك الخسارة ومقدارها.
فمركز الإصلاح الأوروبي يقدر الخسائر البريطانية بنحو 500 مليون استرليني أسبوعيا، أي ما يعادل 26 مليار جنيه استرليني سنويا، وانكماش اقتصاد المملكة المتحدة بنحو 2.5 في المائة.
أما المعهد الوطني للدراسات الاقتصادية والاجتماعية، أحد أبرز المعاهد البحثية في المملكة المتحدة، فإنه يصل بتكلفة الخروج البريطاني من التكتل إلى 100 مليار جنيه استرليني بحلول عام 2030، بينما يقدر تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنحو 3.9 في المائة.
تلك الخسائر الضخمة، تعود إلى مجموعة من الأسباب أبرزها أن “بريكست” سيوجد عوائق كبيرة أمام التجارة والخدمات، وسيجعل بيع الخدمات والسلع من بريطانيا للآخرين أقل جاذبية، بسبب ارتفاع التكلفة الإنتاجية في المملكة المتحدة، ومن ثم ارتفاع سعر المنتج النهائي، وهذا سيؤدي حتما إلى فقدان الشركات متعددة الجنسيات شهية الاستثمار في المملكة المتحدة.
ويكشف الواقع الراهن أن عديدا من الشركات الدولية التي استقرت في المملكة المتحدة لسنوات، بهدف الاستفادة من المزايا النسبية من عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي ستسارع بالخروج.
وحذرت شركات مثل “إيرباص”، و”بي.إم. دبليو” من عمليات تسريح محتملة وتجميد أنشطتها في بريطانيا، ونقل مقرها إلى القارة الأوروبية.
وترصد أغلب الدراسات التي أجريت بشأن الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي، أن الشركات الدولية جادة في انسحابها من الاقتصاد البريطاني، وإعادة تمركزها في بلدان الاتحاد الأوروبي الأخرى ذات التكلفة الإنتاجية المنخفضة مثل إسبانيا والبرتغال وبولندا أو مجموعة بلدان أوروبا الشرقية مثل المجر ورومانيا.
وسيؤدي رحيل الشركات الدولية عن المملكة المتحدة بسبب بريكست، إلى مجموعة من النتائج السلبية على الاقتصاد البريطاني، تجملها لـ “الاقتصادية”، ماري فيليبوس الباحثة في المعهد الوطني للدراسات الاقتصادية والاجتماعية قائلة، إن “الشركات متعددة الجنسيات تقوم بدور محوري في الاقتصاد البريطاني، وتسهم سواء من خلال تدفقات رأس المال أو التطور التكنولوجي في احتلال الاقتصاد البريطاني المرتبة الخامسة في الاقتصاد العالمي، لكن مع فرار تلك الشركات سينخفض إجمالي التجارة البريطانية مع الاتحاد الأوروبي بنحو 4.6 في المائة، وسيتراجع الناتج المحلي الإجمالي لكل فرد في المملكة المتحدة بنحو 3 في المائة سنويا، وسيتقلص الاستثمار الأجنبي المباشر بنحو 21 في المائة، كما سيتآكل العائد الضريبي بما يتراوح بين 1.5 – 2 في المائة، أي ما يعادل بين 18 – 23 مليار استرليني حتى عام 2030”.
ولا يتردد اتحاد البنوك البريطانية، أحد أبرز المؤسسات في المملكة المتحدة، في الإعراب عن قلقه من النتائج الوخيمة على النظام المصرفي، نتيجة فرار الشركات الدولية من بريطانيا.
ويرصد لـ “الاقتصادية”، جيريمي فوكس الرئيس السابق للجنة الاستشارية في الاتحاد، “تزايد عدد الشركات الدولية التي نقلت مقرها الرئيس من بريطانيا إلى داخل القارة الأوروبية لبلدان مثل إسبانيا أو بولندا أو حتى لبلدان أخرى مثل إيرلندا، أو أنشأت شركات إضافية داخل الاتحاد لتفادي العواقب السلبية لبريكست”.
ويضيف أن شركة “باناسونيك” اليابانية نقلت مقرها إلى هولندا للحد من المشكلات الضريبية الناجمة عن بريكست، أما شركة “موجي” اليابانية لتجارة التجزئة، وبنكا “نومورا” و”دايوا” فيقومون بنقل مقارهم الرئيسة إلى ألمانيا، بل إن شركات بريطانية ذات طبيعة عالمية مثل سوق التأمين وإعادة التأمين “لويدز لندن” تلقت موافقة الجهات التنظيمية في بلجيكا لتأسيس شركة تأمين في بروكسل.
وفي الواقع، فإن البيانات المتاحة تشير إلى أن فرار الشركات من المملكة المتحدة، لا يعد حصرا على الشركات متعددة الجنسيات الكبيرة.
بل حتى الشركات الصغيرة والمتوسطة، ولاسيما الشركات التي تتاجر مع الاتحاد الأوروبي، تضع خططا لإنشاء مخازن لها أو مستودعات داخل القارة الأوروبية، في بلدان مثل هولندا وسلوفاكيا لتقليل المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها مستقبلا.
الدكتور ميجور وينستون أستاذ الاقتصاد الكلي في مدرسة لندن للاقتصاد، يعتقد أن رد فعل الشركات متعددة الجنسيات بالخروج من المملكة المتحدة، قد يكون أحد العوامل التي ستدفع الاقتصاد الوطني إلى حالة من عدم اليقين الاستثماري والركود، خاصة مع تعرض النظام المصرفي لهزات نتيجة نزوح الموظفين من أصحاب الخبرات المصرفية إلى أوروبا، وهذا سيسهم في رفع معدلات البطالة.
ويضيف لـ “الاقتصادية”، أنه “سيتم نقل نحو عشرة آلاف وظيفة مالية من بريطانيا، وأكثر من ربع الشركات المالية الكبرى ستنقل موظفيها أو عملياتها إلى الخارج، بل إن بنوكا استثمارية بحجم “جولدمان ساكس” و”جي بي مورجان” و”مورجان ستانلي” ستنقل وظائف رئيسة إلى القارة الأوروبية للتخفيف من المخاطر، كما أن هناك قطاعات أخرى حاسمة مثل البحث العلمي وصناعة السيارات قلقة أيضا، وحتى سلاسل المطاعم يلاحظ أنها تستأجر مزيدا من الموظفين البريطانيين تحسبا لرحيل العمال الأجانب، وتلك التطورات يمكن أن ينجم عنها تخفيض التصنيف الائتماني لبريطانيا”.
وتختلف دوافع مغادرة الشركات الدولية بريطانيا من شركة إلى أخرى، فبينما يخشى بعضها من أن تؤدي الضرائب الجمركية التي ستفرض بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا إلى رفع تكلفة السلع والخدمات المصدرة من المملكة المتحدة، ما يعرض الشركات الدولية العاملة في الأراضي البريطانية إلى الخسارة، فإن شركات أخرى ترى أن النظم القانونية الجديدة ستجعل من الصعب عليها تحريك موظفيها بين بريطانيا وباقي بلدان الاتحاد الأوروبي بذات السهولة السابقة، بينما تتحسب شركات دولية من ارتفاع معدلات التضخم، إذ إن تراجع الاسترليني يزيد من تكلفة الواردات ومن ثم التكلفة الإنتاجية، وقد حذر محافظ بنك إنجلترا أخيرا من تعرض العملة البريطانية لهزة قوية نتيجة بريكست”.
لكن المخاوف من الهروب الراهن للشركات الدولية من بريطانيا، لا يمثل بالنسبة للاقتصاديين المساندين لبريكست أكثر من ظاهرة وقتية، وانتكاسة مرحلية لن تدوم طويلا.
الدكتورة أماندا سول أستاذة التجارة الدولية في جامعة لندن وأحد أبرز الشخصيات المدافعة عن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد، تشير إلى أن فرار الشركات الدولية من بريطانيا خطوة متسرعة، مرجعها خضوع مجالس الإدارات لضغوط حاملي الأسهم، الذين يبنون آراءهم على تعليقات الصحافة، وليس على أساس التحليلات الاقتصادية العميقة.
وتضيف لـ “الاقتصادية”، أن هناك عاملين سيصبان في مصلحة الاقتصاد البريطاني، وهما انخفاض قيمة الاسترليني، والنظام الضريبي المشجع للاستثمار، وبالنسبة للعامل الأول، فقد انخفض الاسترليني بنحو 14 في المائة منذ التصويت لمصلحة الخروج الأوروبي، وأوجد هذا صفقات جديدة، فسوفت بنك قام بشراء شركة “إيه آر إم” البريطانية لأشباه الموصلات، وشركة نيسان اليابانية ستوسع نشاطها الإنتاجي في بريطانيا، وتويوتا اليابانية تعهدت باستثمارات ضخمة رغم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي”.
وبالنسبة للضرائب تعتقد أن خفض بريطانيا للضرائب على الشركات سيساعد على استعادة الشركات التي غادرت إلى القارة الأوروبية.
لكن وجهة النظر تلك، لا تنفي أن حجم التجارة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، التي تبلغ نحو تريليون و196 مليار يورو ستتأثر، فعلى سبيل المثال يوجد حاليا 1300 شركة فرعية ألمانية تعمل في المملكة المتحدة، و25 ألف شركة بريطانية لها أفرع في ألمانيا، بإجمالي عدد عاملين يقدر بنحو 2.6 مليون موظف، ولا ينفي الخبراء الاقتصاديون سواء من المعسكر الداعي للخروج من الاتحاد أو المؤيدين للبقاء، بأن الاقتصاد البريطاني سيصاب بحالة من الركود في أعقاب الخروج، يزيد منها تدهورا انسحاب الشركات المتعددة الجنسيات.
ومع توقع مواصلة الشركات الدولية موجة الفرار من بريطانيا نتيجة تقلبات أسعار الصرف، بما لها من تأثير مباشر في أسعار المنتجات، وتزايد ضغوط المنافسة، فإن ارتفاع التكاليف اللوجستية للنقل نتيجة الإجراءات الجمركية المرهقة، أو جراء الجوانب البيروقراطية التي ستبرز نتيجة استخراج الشهادات والوثائق اللازمة لإتمام عملية الاستيراد والتصدير، يضاف إلى ذلك اختلاف الأطر القانونية والتنظيمية بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، وجميعها عوامل قد تجعل من عملية الانسحاب ضرورة اقتصادية بالنسبة للشركات بغض النظر عن حجمها الاقتصادي.