صورة الموت في المجموعة القصصية حواس زهرة نائمة لسامية غشير د. فارس بيرة
النشرة الدولية –
يعجُّ عالم الإبداع القصصي بعديد الظواهر و الموضوعات، التي تفرض حضورها على مختلف النّصوص التي ينتجها الكاتب لحظة إبداع أي نصِّ شعري أو سردي، ثم ينفخ فيها شيئاً من دهشة الصورة الشّعرية التي يتّخذها الكاتب مطيةً لتحقيق غاية مفادها الإمساك بشذرات المعاني.
و قد جاءت مجموعة حواس زهرة نائمة للكاتبة و الأديبة الجزائرية سامية غشير الصادرة عن المكتبة العربية للنشر و التوزيع سنة 2018 ، متربِّعة على عرش الإبداع السّردي، فاتحةً منفذاً حديثاً في سبك القصة غاية في التميز، و ذلك لما تحمله من موضوعات إنسانية مرهفة الشُّعور، كالحب و الجفاء، الحياة والموت، الحزن والفرح …إلخ، بالإضافة إلى اعتماد تقنيات السّرد بما يتلائم و خصوصيات سرد القصة القصيرة.
و لمّا كان الموت حاضراً في حواس زهرة نائمة شكلياً عبر مختلف القصص بأحداثها و ضمنياً في تفاصيل اللغة الموحية، ارتأينا أن نبحث في صورة هذه التيمة التي سدلت عباءة السّواد على اغلب القصص التي تضمنتها المجموعة، و منه جاء سؤالنا التالي: هل كانت صورة الموت في مجموعة حواس زهرة نائمة لسامية غشير محاكاة لنظرة الآخرين من الأدباء و الشُّعراء له؟ أم أنَّ الكاتبة سامية غشير اتخذت لنفسها اتجاهاً مغاييراً و طوّعت صورة الموت وفق رؤيتها من خلال توظيف و استلهام قصصها من خلال تجاربها في عديد مواقف الحياة ؟
يعد الموت سؤالا فلسفيا وفكريا هيمن على مختلف النصوص الأدبية المعاصرة، إذ اضحى تيمة رئيسة تتمحور حولها المتون خاصة السردية، كونها اكثر قدرة على تشخيصه، وتبيان صوره وتجلياته المتعددة، فالموت أضحى بؤرة سردية تنطلق منه الكثير من الأحداث وتتناسل في نسيج النص مشكلة لوحة تراجيدية تفيض بعديد الدلالات والإيحاءات.
“في حواس زهرة نائمة” يظهر الموت بصورة مهيمنة، إذ يحتل مساحات المجموعة، ويكون هاجسا شغل الكاتبة، وشكل هما لها، إذ يتمظهر بصوره المختلفة، الموت المادي، الموت الرمزي، الموت الأخلاقي، موت الزمان والمكان، إذ تظهر الشخصيات معدمة، مأساوية، ميتة اخلاقيا وإنسانيا، كما يمتد الموت ليحمل فكرة الحياة في الموت، من خلال التّمسك بالحياة و تجديد العهد معها، بعد كل سقطة، متجاوزين ذلك الوجع، بكثير من الأمل و العزيمة، ” الوجع هو أنيسي في رحلة حياتي المليئة بالعثرات و الجراحات التي كانت تتناسل يومياً على ضفاف روحي، و حرائق الدهر تشغلني مرارة و خسائر حياتي كانت أشبه بالعدم، و هو يغرس فيّ سهام ندوب الوجع التي مكثت أكثر في خوالجي المهمشة لم ينفعني وقود الأمل ان امتطي بساط السعادة الذي نسجته منذ سنين …” حواس زهرة نائمة ص 15.
إن توظيف الكاتبة لصورة الموت على امتداد صفحات المجموعة القصصية و منحه مساحةً معتبرة من الحضور، بمختلف أنواعه كالموت الصاعتمدت الكاتبة أسلوب التكثيف اللغوي في طريقها اقتناصها لمختلف المعاني والايحاءات، و ذلك بإستخدام مختلف الالفاظ الدالة و التي تشحن أكثر عدد من المعاني ،” نثرت المكان بظل خبائل الانكسارات، و رمت ذاكرة العذابات، وتوغّلت في رسم السّحر و أريج نبوءة مواسم زهو حلم الفتوحات” حواس زهرة نائمة/ حلم باريسي ص 65 . و اللغة التي سارت وفقها الكاتبة في نسج قصصها، لغة تتوافق مع مختلف الصور الرمزية التي كانت حاضرة ،و لعل إنتهاج مثل هذا الأسلوب من خصائص سرد القصة القصيرة و يكون ذلك قصد تقريب المعنى للقارىء، بالإضافة إلى أن توظيف هذه الصورة غالباً ما يكون ضرورة لا اختياراً و ذلك وفق ما تقتضيه حبكة القصة .
إن بعض القصص في “حواس زهرة نائمة” تتضمن صوراً متعددة للموت، تصل في الكثير من الاحيان بين الذات و الموضوع حدّ التّماهي فتصبح الذات هي الموضوع و العكس،إنها تضع صورة الذات في المقابل و كأنها في غرفة من المرايا العاكسة و المتقابلة، مما جعل روح الإبداع تتجلى في تلك الصور الشّعرية المكونة للنصوص السّردية بمثابة صورة الكاتبة او يجعل صورة الكاتبة و شخصيتها تتجلى في تلك الصور الشعرية و التي ارتسمت على شكل واحد من بداية المجموعة إلى نهايتها في أسلوب واحد وعلى نسق واحد، فيرى القارىء صورته في تلك الحواس، و يحس من خلال لغة الكاتبة الممارسة لفعل التأثير على القارىء بآلام تلك الزهرة النائمة والتي فقدت حواسها جرّاء نكسات الحياة، أو يجعل من تجليات ذلك الموت صورة تحاصر القارىء و تتربص به، فيتقمص القارىء دور الشخوص يستسلم للموت و لأحاديثة التي تحسن الكاتبة ترتيلها عبر مختلق القصص المكونة للمجموعة .
لقد استطاعت الكاتبة سامية غشير في مجموعتها القصصية ” حواس زهرة نائمة ” ولوج عالم القصِّ برؤية مغايرة تماماً، تجعل من اللغة الشّعرية بالإضافة إلى عامل التكثيف الدلالي ، وابتكار شكل جديد لسرد القصة القصيرة العربية، و الارتقاء بها إلى آفاق إبداعية لا حدود لها، و ذلك من خلال قدرتها على استلهام و تخيل تلك الشُّخوص المتعددة المواجع و التي تلتقي جميعاً في محطة لا بد منها و هي محطة الموت .وفي و موت المكان و الزمان و الموت الإنساني بالإضافة إلى موت الضمائر و المشاعر ، ليس من باب وضع الموت بدل الحياة و الجفاف بدل الخصب و اليأس بدل الأمل و الهزيمة بدل النّصر، وإنما كان حضوره بمثابة تشريح للواقع و تفكيك الأنماط لحياة الإنسانية و التي لا تخلو من صورة هذا الشبح الذي طالما سلب الفرحة، و لعل تخلل قصص تنبض بالحياة بين هذه المجموعة التي كان حضور الموت فيها طاغياً ، إنما كان من باب بعث أمل جديد في الحياة و أنَّ العالم لا يتوقف على غياب الأشخاص و الاماكن و المشاعر، فدائماً ما يكون هناك تجارب جديدة تستحق أن يُطرق بابها ، ” الحياة لمّا تغادرنا تنثر في أرواحنا بريق الرّحيل الأخير، حتى و إن أردنا محاربة القدر إلّا أنَّ سلطة الغرامية هي التي تنتصر في الأخير، لم يبق في دفاتر ذاكرتي غير تلك الستائر الغرامية التي نشرتها على محرقة غيابي، شبابيك الأمل غادرتني، لم أكن أظن أنّ عذاب الوجد محرق لدرجة الانصهار أنا كنت امرأة حالمة لكن أقوى من أحلامي…”حواس زهرة نائمة / ستائر غرامية ص 49، و لم يكن حضور الفقد من باب النُّزعة التشاؤمية بقدر ماكان من باب التفاؤل و عدم التسليم بالواقع و الاستسلام لليأس و القنوط، و تكرار النهوض والاصرار على تكرار تجربة اخرى بأمل جديد .
إن تصوير الكاتبة سامية غشير للموت هو شكل مبتكر و مغاير تماما لما ساد في مختلف القصص التي اعتدنا قراءتها، و لعل سر نجاحها في إخراجها على هذه الشاكلة هو عدم اقتصارها على التراكيب البلاغية المعهودة في وصف الموت، فحسب بل تعدّتها إلى أكثر من ذلك من خلال عرضها لصور الموت المتعددة و الفقد و موت المشاعر و الأماكن بصورة جمالية تجعل القارىء يرى بعضاً من جمالية الموت في تلك الصور الشّعرية، عكس الصورة الموحشة التي طالما رسمت عن الموت و التي طالما اقترنت دائماً بالنهاياتامتلأ المكان بالصّقيع وتعال صراخ الأمواج يعبر مسالك السّماء حتى تراءت النّجوم معلنة ميلاد حلم جديد. سأكون غدا هناك أغتسل بدموع فرحي، سأجوب مدارات الذّاكرة وأعبّق الفضاءات زهرا من بنفسج الرّوح الذّي لا يندمل، وأشرق قنديلا في دهاليز الذّكرى، سيسمعني البحر من جديد، سأكون موسما جديدا فلتهرعي يا رياح، أنا قادم كالبركان أحمل في دمي صبر أيّوب، وطوفان نوح، سأكون كالحرف السّخي يمنح بريق الألق للكلمات، سأكون همسة ربيعيّة تعتصر حلم مواسم الخريف.(أحلام تنوح في ضبابية الجرح، ص93)
ففي “حواس زهرة نائمة” تؤكد الكاتبة سامية غشير المقولة السائدة لكل نهاية بداية، فحتى مع الموت توجد بداية جديدة بأمل جديد، لأنه في الأخير حتى ذلك الموت هو بمثابة بداية مرحلة جديدة في الحياة البرزخية .