محاولةُ تأثيثِ الوجع!* حنان بيروتي
النشرة الدولية –
لم تكن المرةُ الأولى التي أسمح فيها لقطتي المنزلية بالخروجِ والقفزِ برشاقةٍ ربما تقل عن قريناتها خارجَ أسوارالبيت، وأدعو في كلِّ مرةٍ ألا يصيبَها أذى وأن يتمهلَ سائقو السياراتِ وألا يتستسهلوا دهسها .
ذاك المساء الذي خرجتْ فيه قطتي كان هو الأخير لأنّها ماتت؛ لم تمت دهسًا كما كنتُ أخشى بل تمّ قتلها بيد صِبية جاؤوا للتسكع من حي قريب ولفتت نظرَ أحدُهم بوداعتها وبعدم تخوّفها من الغرباء ،وربما افتراضها الإنسانية والأخلاق في تعامل البشر؛ فلا أدري كيف ولماذا لكنّه قتلها وتركَ جريمته على قارعةِ الطريق ومضى مع رفاقه الشاهدين بتواطؤ مريضٍ.
لن أتحدثَ عن الألم والأذى الذي تسببه بقتله القطة التي ينتظرها من في البيت بمساحةٌ وفيرةٍ من الدفء والحب، و لها في قلوب أفراد العائلة ركنًا من الألفة والافتقاد؛ فلستُ أكتبُ هنا موضوع إنشاء نحتاجُ في زمننا لمئاتِ الصفحات التي تحاول تأثيث االوجع وترميم الشرخ في النفس الذي تتسبب به نشرةُ أخبارٍ واحدةٍ تلطخها الأنباءُ التي باتت للأسف مألوفة ومتكررة والتي يتحول فيها القتلى لأرقامٍ مهولةٍ في ازديادٍ مضطرد،لكني أتناوله من زاويةِ المراقبِ بقلقٍ لتحول العنف من فكرةٍ منبوذة ومؤذية الى سلوكٍ مستساغٍ وقابلٍ للتنفيذ في حال تجنب الانكشاف أو غياب الرداع القانوني ، إذا كان الصبي في حال إحساسه بعدم وجود رادعٍ قانوني يُفلت ما بداخله من ميلٍ لارتكاب فعل عنيف كالقتل وازهاق روح- بصرف النظر إن كانت لقطة – فأنّ في ذلك مؤشرًا على أنّ نفسه لم تعد تتبع الفطرة النقية في تجنب التسبب بأذى مقصودٍ لكائنٍ لم يشكل مصدرَ خطرٍ له، بمعنى إمكانية انفلات العنف الموجود داخله متاحةٌ في حال غياب الرادع القانوني أو أمنه من العقاب، والمسالة الثانية هي حالة الفراغ الفكري والعاطفي التي تدعو صبيًا في مقتبل العمر لإرتكاب مثل هذه الفعل لاثبات قوته والتفاخرِ أمام عائلته أو أقرانه وربما أمام نفسه في أسوأ الاحتمالات .
الحديثُ يدفعنا للبحثِ عن الأسباب ؛ لماذا ينتشرُ العنف في المجتمعاتِ الإنسانية المعاصرةِ بكلّ هذه العلانية وبأغطيةٍ مزيفةٍ من المشروعية ؟ هل كان العنف موجودًا لكن الوسائلَ التكنولوجية المعاصرة جعلته مكشوفًا ؟هل ساهمت في زيادته ؟ ولماذا؟ تمنيتُ أن ألجَ نفسَ هذه الصبي الذي هو في مقتبل العمر ولما ينهي بعد المرحلة الدراسية من حياته ولما تكتمل المنظومة القيمية لديه والتي تنبع منها سلوكاتُه الحاليةُ والمستقبليةُ لأعرفَ بماذا تشرّبت هذه النفسُ الغضةُ من مشاهدَ وتجاربَ بصريةٍ ،و هل تسرَّبت له عبر الشاشات أو من خلال البيئة المحيطة في الحي الذي يعيش فيه؟ هل تعرض لعنفٍ أسري ساهم في تشكل مفهوم مغلوط لديه حول أنّ العنف وسيلة مبررة للدفاع عن النفس حينًا أو لاثباتها أحيانًا؟ هل تنمّر عليه رفاقُه في المدرسة أو تسربتْ له المشاهدُ العنيفةُ من خلال ألعابٍ الكترونيةٍ تجعل الفعل العنيف عاديًا ومالوفًا بل وسيلةً للفوز ؛ وبالتالي تنتقل لا شعوريًا لتكون فعلاً على أرض الواقع يمكن اللجوء إليه إن لم يكن ثمة رادعٌ قانوني ؟ أليس الرادع الأخلاقي هو المفترض أن يوجه تصرفاتِ الفرد في المجتمع المعاصر؟ لماذا يتحول فتى بعمره بقلب طفل إلى مهاجمٍ عنيفٍ لا يهتز ضميرُه ولا يردعه إلا الخوفُ من العقاب ؟
ماذا سيكون مستقبل هذا الصبي المسكين الذي مارسَ العنف على كائنٍ لطيف وتسبب بموته بلحظاتٍ وتابعَ يومه ومرحه وفوضوية تجواله في الشوارع ليقتلَ الوقت ؟ ماذا سيكون مستقبل الجيل الصاعد أو لنقل الهابط نحو المفاهيم المادية والإستهلاكية والنفعية والتخلي التدريجي عن المفاهيم والقيم المعنوية الراقية وتحول مفهومه للعقيدة من منهج سلوك وحياة الى شعائر وطقوس يُصار لفصلها تدريجيًا عن الحياة المعيشة؟ ماذا سيكون نتاج الجيل القادم الفكري والتنموي إن كان يملأ فراغه الفكري بالبحث عما يشغله ويؤثث المساحة الخاوية في ذاته ؟
ليسوا وحدهم من يتحمل المسؤولية ،ثمة مسؤولية مشتركة وواجب أخلاقي نسهم كلُّنا آباء ومربين به ،في هذا الزمن المعاصر المنخور بالمؤثرات والمنفتح على كلِّ شيء والمُبتلى بكلِّ صور الإنقلابات الفكرية والقيمية والفوضى الأخلاقية ، كلُّنا مسؤولون ونحتاج لوقفاتٍ جادةٍ لنراجعَ انفسنا ،ونعيدَ تقييم منظومتنا الفكرية والتربوية بعينٍ فاحصةٍ واقعيةٍ حريصة على الأخذ بمتغيراتِ العصر.
كاتبة وقاصة أردنية