أكثرُ من وظيفةٍ!* حنان بيروتي

النشرة الدولية –

السؤالُ اّلذي كنا نحن أبناء القرن المنقضي نبادرُ بطرحِه مجرد دخولِ البيت بعد الرجوعِ من المدرسة  عن الغداء، إذ كنا  فعلاً نشعرُ بالجوع فلم يكن ” الشيبس” والشوكلاتة والأغذية المصنعة الجاذبة بوفيرةٍ ومتنوعة أو قريبةِ المنال ،و لم يكن المصروفُ اليومي المحدودُ  يسمح بالوصول لمرحلة الشبع،ربما  الجوع ليس للطعام فقط وإنَّما لدفءِ وحنان الأم التي اعتدنا أن  تلازمَ البيت، ويُعتبر عدم تواجدها في نظرِنا شيء مستهجن يستوجب العتبَ والعتاب، فلم تكن الأمهاتُ بشكلٍ عام يزاولنَ وظيفةً إلا في ما ندر غير أنّ عبءُ  مسؤولية عائلة تزيد عن العشرة أفراد بكلِّ هذا التفرُّغ والعناية والحرص على التغذية الصحية تعتبرُ وظيفة خطيرة لا بل وتساوي أكثرَ من وظيفة ؛ فأمي كانت مربيةً وطباخةً وطبيبةً ومرشدة نفسية و..و…، لا أنسى تكرر التهاب اللوزتين ونزلات البرد لدى العائلة وكيف كانت تغلي” الإسرنج ” الزجاجي وتعطي الأبر بنفسها.

تنثالُ هذه الذكرياتُ  في خاطري فيما أرقبُ الأطفالَ في زمنِ السرعةِ و فوضى الوعي والتطورالمذهل وفي وقت تقلصَ فيه  عددُ  العائلة النووية وكاد يتلاشى  مفهومُ العائلة الممتدة ،وتعددت فيه متطلباتُ الحياة و وزاد تعقيدُها رغم انتشار ما يُفترض أن  ييسرَها من وسائلِ اتصال وأجهزةٍ كهربائيةٍ لغسيلِ الملابسِ والأطباقِ  ووسائل التبريد والتدفئةِ والشاشات وتواصي والأطعمة الجاهزة وخدمة التوصيل…..فتعود بي الذاكرةُ لزمنٍ كنا نسأل فيه برجاء “شو في بعد الغدا؟”  وكنا نستعلمُ إن كانَ هناك  فاكهة؟ أو حلوى ؟ فيجيبنا والدي على سبيل الطرفة وهو المثقل كاهله بعيشنا :  في بعد الغدا عشا !

كان  لتلك الفاكهةِ التي كنا نوزعها بالعدد ونأكلها بشهيةٍ وامتنانٍ رائحةُ الفرحِ ومذاقُ النعمة والامتنان،  كان القليل يبورك كما تردد أمي ، وكان الطريقُ للفرح قصيرًا ونوقُّع الخيبات واردًا بل هو الغالب  كما في حال طلبات المدرسة فشراء  كرتونة بيضاء لعملِ وسيلةٍ  مثلاً يحتاجُ لنقاشٍ مستفيض وعطاءات  تتعلقُ بميزانيةِ الأسرةِ ،أما لو كان المطلوبُ شراء كرتونةً سوداء بثمن أعلى فذاك اليوم أسود دونما  داعٍ لنقاش!

اليوم كثرتْ الرفاهياتُ وقلَّ الرضا؛ فلم يعد إرضاء الطفل ولا أقولُ جعله يفرح ويُظهر إمتنانه بأمرٍ يسيرٍ، وبات تقديمُ الطلبِ من قبل الابن  لا يقترنُ غالبًا بالرفض أوبالتأجيل؛ فجيلُ هذه الأيام لا يعرفُ الصبرَ،تضاءلت مقدرتُه على الانتظار ،وضاقت رؤيتُه وجفَّت أو تكادُ منابعُ تعاطفه وشفقته  على والديه ،ربما تأثرَ بزمنِ السرعةِ في النقل والتواصل، واتّسعت مداركُه ورؤيته  إلى درجةٍ  لم يعد يرى معها  إلا نفسَه اللاهثةَ لأكثر ما يمكن من الكثيرِ المتاح ! وباتت المقارنةُ التي يعقدُها بينه وبين أقرانه لا تتعلقُ  إلا بدرجةِ المكتسباتِ وتحققها وليس بأمرٍ آخر من تحصيلٍ علمي أو من منظورٍ أخلاقي؛ فمفهوم القدوة الصالحة بات مجتزءًا  يغلب عليه الطابعُ الإستهلاكي الضيق.

أعود بذاكرتي للوقتِ الّذي أصبحتُ  فيه أمًا وجربتُ عظمَ المسؤوليات الجديدة ، بتُّ أُكثر من التفكير بأمي ،وتدهشني تفاصيلُ حياتها  التي ربَّت خلالها  عشرةَ أفراد وحاكت ثوبَ نضوجهم بصبرٍ وأناةٍ، وصرت أقدِّر وأتفهّم  حيرتَها فيما تطبخه من القليل المتاح ،وحرصَها على حفظ  حصة الغائب وتوزيع اللحم والفاكهة بالعدل قبل أن تتذوقَ لقمة ، وكيف دبرتْ مصروفنا اليومي ومتطلباتنا الأساسية بحكمة اقتصادي خبير، ومتطلبات ملابس العيد ومعاطف الشتاء ، وأعذرُ عدمَ قدرتها على تحقيق الطلبات كلّها  و..و…فأصطدم بشقاءِ التربية  وزيادة تعقيدها في عصرنا والتي باتت الأيدي الخفيةُ للتكنولوجيا تتسلل لنفوس وعقول أبنائنا برضانا أو بعدمه ،وتعيدُ ترتيبَ المنظومة القيمية لجيلٍ بأكمله … فأكفُّ عن المقارنةِ وألوذُ للحظةِ سكينةٍ ودعاء بالرحمة  لكلِّ الآباء على اختلاف الأزمان !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى