علّمه البيان
بقلم: جيهان الكردي
اللُّغة رحلة من النفس إلى الفكر إلى الوجدان إلى اليد، من عشقها عشق الحرف واللفظ والمعنى والمبنى، ومن ألفها صارت زاده وحلّه وترحاله، ومن وُلِد على عشقها نبتت على شرايينه كما تنبت الوردة في الأرض فتتكاثر بتقادم السنين وتكبر حتى تصبح ظلا ظليلا…
ومن عبّر عنها بالكتابة والأدب، حبث صارت الأوراق كأنما هي بيوت قائمة في الروح والأقلام أبوابها، ومع ذلك فهي ليست سهلة الفتح، فالكتابة ليست ترفًا، إنّما هي نزف الوجدان ومعاناة الفكر، وألم المعالجة قبل التماثل للبوح.
أما “عندما ننطق اللّغة فإننا لا نتحدث بلهجة مملّة واحدة، بل نرفع الصوت في بعض المواضع ونخفضه في مواضع أخرى، ونشدّد على نطق بعض الأصوات ونرخي الأخرى.
كما نلجأ إلى توقفات في نهايات الجمل تدعى بالتوقفات القواعدية وتوقفات أخرى في أواسط الجمل تدعى بالتوقفات غير القواعدية، والتي نملأها عادة بأصوات مثل “ممم” و”أهمم”. كما نتكلم بسرعة في بعض الأحيان وببطء في أحيان أخرى. وتصاحب هذه الإشارات الصوتية كلامنا اليومي … ويرى ديفتز أنه لدينا عادة ثماني صيغ للصوت يمكن تمييزها عن بعضها الآخر، تؤشر للسامع مزاج المتكلم. وهذه الأمزجة هي: “المودّة” و”الغضب” و”الملل” و”المرح” و”نفاد الصبر” و”الفرح” و”الحزن” و”الرضى”*.
وأمّا اللغة العربيّة فهي من أجمل اللغات وأقواها لفظاً، وقد سمّاها الله في قرآنه: ﴿لسان عربيٍّ مبين﴾، ومن لم يؤتَ حظًّا منها فقد فاته الكثير من سحر المعاني وجمال البيان وفريد الحرف، ومن أوتي منها حظًّا لم يرضَ فهو مثل غريق في بحر يختار من اللآلئ أجودها ولا يقنع يريد المزيد! ومن تربّى على حسنها وتذوقها جمّلت ذائقته وهذبت لغته وأناخت له من المعاني والكلمات أدقها وأحسنها!
وإني لا أتصوّر نعمة أكثر جلالًا من اللّغة أنعم الله بها على الإنسان؛ فكانت أول الوحي “إقرأ”، وسورة باسم “القلم” وكأنها توصية إلهية خاصة لمن علمه الله البيان.
وقد يكون تعلّم اللغة سهلًا، ولكن العقل يمر بعمليات تفكير معقدة حتى يصل إلى مرحلة الكلام أو الكتابة باللغة، فلولا اللغة لما استطعنا أن نتواصل وأن نفهم ما يدور حولنا وأن ننقل أفكارنا، ولما استطاع العلماء القدامى نقل علومهم وأفكارهم، ولما استطاعت أمّة أن تضع البصمة الخاصة بها، وقريبًا من هذا المعنى يقول الرافعيّ في “وحي القلم”: “أمّا اللّغة فهي صورة وجود الأمّة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسها، وجودًا متميزًا قائمًا بخصائصه؛ فهي قومية الفكر، تتحد بها الأمة في صورة التفكير وأساليب أخذ المعنى من المادة؛ والدقّة في تركيب اللغة دليل على دقة المَلَكات في أهلها، وعمقها هو عمق الروح ودليل الحسّ على ميل الأمة إلى التفكير والبحث في الأسباب والعلل، وكثرة مشتقاتها برهان على نزعة الحريّة وطموحها؛ فإن روح الاستعباد ضيق لا يتسع، ودأبه لزوم الكلمة والكلمات القليلة”.
ورغم كل ذلك الكلام السابق عن اللغة العربية وعظم شأنها وشأن فنونها وعلومها، إلا أنّنا مقصرون أيّما تقصير في حقّها، فمن ناحية الحديث اليومي فإننا نستعمل بعضًا من مفردات أجنبية دخيلة لسنا مضطرين لاستعمالها، ومن ناحية مواكبة التقدم العلمي فنراها لا تشكل ما نسبته واحدًا في المائة من المحتوى عبر الشابكة وهذا الأمر يحتاج جهودًا جبّارة حتى نحصل على بعض التغيير، إضافة إلى عدم مواكبة المصطلحات الحديثة التي ظهرت مع التقدم التكنولوجي، وهذا بالطبع ليس من قصور اللّغة بل من تقصيرنا، بل قد يتعدى الأمر موضوع التقصير إلى أن يصبح إساءة للّغة العربيّة كما في مظاهر كثيرة؛ مثل انتشار كتب بمحتوى رديء بين الناس، وعدم استخدامها بشكل صحيح، وعدم التعامل مع ما خلفته الحروب والأزمات في بلداننا وأثرت به على الأطفال، فحرم الكثير منهم من التعليم.
وخير من عبّر عن هذه المعاني حافظ إبراهيم حين قال:
رَجَعْتُ لنفْسِي فاتَّهمتُ حَصاتِي وناديْتُ قَوْمِي فاحْتَسَبْتُ حياتِي
رَمَوني بعُقمٍ في الشَّبابِ وليتَني عَقِمتُ فلم أجزَعْ لقَولِ عِداتي
وَلَدتُ ولمَّا لم أجِدْ لعرائسي رِجالاً وأَكفاءً وَأَدْتُ بناتِي
وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغاية وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلة وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ
أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
فيا وَيحَكُم أبلى وتَبلى مَحاسِني ومنْكمْ وإنْ عَزَّ الدّواءُ أساتِي
فلا تَكِلُوني للزّمانِ فإنّني أخافُ عليكم أن تَحينَ وَفاتي
أرى لرِجالِ الغَربِ عِزّاً ومَنعَةً وكم عَزَّ أقوامٌ بعِزِّ لُغاتِ
إذاً… اللّغة شريان الأمة وميلاد حضارتها، وسبيلها للقوة والتماسك ونقل العلوم، ويبقى هذا الكلام رأي من الآراء وغيض من فيض وما تستحقه اللّغة العربيّة أكثر بكثير.
*علم نفس اللغة، د.موفق الحمداني، ص235.