الجارديان: هل حان موعد التغيير في صندوق النقد والبنك الدولي؟
النشرة الدولية –
قرر رئيس البنك الدولي “جيم يونغ كيم” تنحيه عن منصبه بداية فبراير، أي قبل ثلاث سنوات ونصف السنة من نهاية ولايته رسميًا، ورغم أن استقالته من قيادة واحدة من أقوى مؤسستين ماليتين دوليتين تبدو إشارة مقلقة، لكنها تدعو للالتفات إلى قضية هامة، بحسب تقرير لـ”الجارديان”.
ويعد البنك وصندوق النقد الدوليين، العمودان اللذان أقاما نظام “بريتون وودز”، والذي أشعل ثورة الرأسمالية وعصرها الذهبي خلال الخمسينيات والستينيات، ورغم أن هذا النظام وسعر الصرف الثابت الذي اعتمده تسببا في مشاكل كبيرة عام 1971، استمرت المؤسستان في دعم قطاع التمويل العالمي بعد ذلك.
قال وزير الخزانة الأمريكي الأسبق “هنري مورجنثاو” في خطاب له خلال مؤتمر “بريتون وودز” الذي أرسى قواعد البنك وصندوق النقد الدوليين: الرخاء، مثل السلام، غير قابل للتجزئة، لا يمكننا أن نتحمل انتشاره هنا أو هناك بين المحظوظين فقط أو التمتع به من قبل البعض على حساب الآخرين.
كانت خطة “بريتون وودز” الأصلية تركز على ضبط أسعار الصرف، وساعد صندوق النقد الدولي البلدان المثقلة بالديون على إعادة هيكلة التزاماتها وتحقيق الاستقرار عبر الحد من هروب رؤوس الأموال.
في الوقت نفسه، قدم البنك الدولي تمويلات للتنمية، وركز على تحقيق التوازن بين المنتج والمستهلك في سوق السلع الأساسية، وأخيرًا أصبح النظام بأكمله مقومًا بالدولار، كون العملة الأمريكية الوحيدة التي يمكن مبادلتها بالذهب.
كان كبير المفاوضين البريطانيين في “بريتون وودز”، “جون ماينارد كينز”، قلقًا إزاء إمكانية اعتماد النظام الجديد على الدولار فقط، والذي يبدو مقبولًا طالما تحقق الولايات المتحدة فائضَا تجاريًا، لكن النظام قد ينهار حال تحولت البلاد إلى العجز.
لذا اقترح “كينز” أنه بدلًا من بناء نظام عالمي جديد يعتمد على الدولار، فإن جميع الاقتصادات الرئيسية تشترك في اتحاد دولي متعدد الأطراف للمقاصة، وفيما تتمسك بعلامتها وبنوكها المركزية الخاصة، ستجري هذه البلدان جميع المدفوعات الدولية باستخدام وحدة محاسبة مشتركة.
بمجرد إنشاء الاتحاد الدولي للمقاصة كان سيعمل على تحقيق التوازن بين تدفقات رؤوس الأموال والطلب الكلي العالمي والإنتاجية، وبشكل عام كان سيعمل بالتوازي مع البنك الدولي للحفاظ على توازن الاقتصاد العالمي وانتشار الرخاء في جميع أنحاء الأرض، لكن الفكرة رُفضت في النهاية.
لم ترغب الولايات المتحدة في استبدال الدولار كمفتاح للنظام النقدي الجديد، وبذلك تم تقليص صلاحيات صندوق النقد إلى مجرد صندوق لإنقاذ المتعثرين، واقتصرت مهام البنك الدولي على الإقراض من احتياطياته، ولم يعد بمقدور الصندوق الاستفادة من استثمارات البنك.
بعد عجز تجاري ضخم للولايات المتحدة، أعلن الرئيس “ريتشارد نيكسون” في الخامس عشر من أغسطس عام 1971 نهاية نظام “بريتون وودز”، تمامًا كما توقع “كينز”، في ما عرف آنذاك بصدمة “نيكسون”، وعلى الفور تصدرت البنوك الخاصة المشهد وقادت أعمال التمويل.
بدلًا من دعم الحكومات وسبل الازدهار، قاد البنك وصندوق النقد الدوليين، ما يسمى بـ”إجماع واشنطن”، وهي حملة لدعم الخصخصة واسعة النطاق وإلغاء القيود المالية، وقال مسؤولو المؤسستين إنه لا توجد حدود فعلية لما يمكن خصخصته.
كان “جيم يونغ كيم” ذات مرة منتقدًا شرسًا لإجماع واشنطن، وهاجم في كتابه “الموت من أجل النمو”، السوق الحر الذي يدعمه البنك الدولي، على حساب الفقراء والضعفاء، لكن حينما أصبح رئيسًا للبنك أظهر تمسكه الشديد بتحقيق الأرباح الخاصة وإن كانت ضد المصلحة العام.
إستراتيجية “تعظيم التمويل من أجل التنمية” التي اعتمدها في 2015، حولت البنك الدولي من مستثمر مباشر في البلدان النامية إلى مجرد مسهل للتمويل الخاص، وبدلًا من إقراض الحكومات أصبح يركز على تذليل العقبات أمام المشاريع، ولعل ذلك يجعل استقالة “كيم” المبكرة للعمل في شركة أسهم خاصة أمرًا منطقيًا.
لكن قرار الرجل يجب أن يثير مراجعة لدور البنك وصندوق النقد الدوليين اليوم، وربما إعادة النظر في فكرة “كينز”، فالعالم اليوم بحاجة إلى برنامج استثمار ضخم كما كان الأمر عام 1944 عندما عصف الخراب وآثار الحرب ببلدان عدة، والآن على سبيل المثال يحتاج العالم 8 تريليونات دولار سنويًا لتحقيق التحول نحو الطاقة النظيفة.
بالتأكيد لن تأتي هذه الأموال من ميزانيات الدول المثقلة بالأعباء، لكن على سبيل المثال، من الممكن إبرام اتفاق “بريتون وودز” جديد لتمويل التحولات المنشودة عبر جمع المدخرات غير المستغلة، من خلال الربط بين البنك والصندوق الدوليين بعد تطوير سياساتهما.
يمكن لصندوق النقد إصدار عملة رقمية يتم من خلالها تسديد جميع المدفوعات الدولية، مع احتفاظ جميع البلدان بعملاتها المحلية، التي سيتم تعويمها بحرية مقابل الوحدة الرقمية الجديدة، وبالتزامن يمكن للبنك الدولي جمع المدخرات غير المستغلة من جميع أنحاء العالم لتوظيفها.
إن مغادرة “كيم” توضح شيئًا واحدًا، أن البنك الدولي على حافة الهاوية تزامنًا مع نمو متسارع لبنوك التنمية الجديدة التي يمكنها ملء الفراغ الذي تخلفه المؤسسة الدولية، لذا يبدو الوقت مناسبًا ليتولى أصحاب الفكر التقدمي قيادتها.