وثائق مصرية تكشف أسرار “اضطهاد” نظام عبد الناصر للفنان محمد فوزي
يسمع المصريون كلاما كثيرا عن علاقة السياسة بالفنانين في بلادهم منذ العهد الملكي وحتى الآن، لكنهم لا يرون سوى قليل من الدلائل التي توثق هذه العلاقة.
ويكشف المؤرخ والناقد السينمائي المصري أشرف غريب بالوثائق، أسرار “اضطهاد” نظام الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر للفنان محمد فوزي، أحد أساطير الفن الغنائي والسينمائي في مصر.
في كتابه الجديد “محمد فوزي.. الوثائق الخاصة”، يكشف غريب عن أنه رغم أن فوزي “لم يكن حتى من هواة الكلام في السياسة، فإنها أحرقته، ولم يدرك ذلك إلا متأخرا”.
ولد فوزي في 19 أغسطس عام 1918 وتوفي، عن 48 عاما، بمرض السرطان في يوم 20 أكتوبر/تشرين أول عام 1966. وأنتج 36 فيلما كان هو بطلها. وبلغ عدد الأفلام التي أنتجها ولم يمثل فيها 47 فيلما.
وفي الأعمال الموسيقية الغنائية، لحن لنفسه 239 عملا، بينما لحن 36 عملا لمطربين آخرين، و116 أغنية لمطربات. وغنى فوزي ثلاث أغنيات فقط لملحنين آخرين.
“سبب المشكلة”
يشرح الكتاب، الصادر بمناسبة مرور مائة عام على ميلاد فوزي، بالوثائق “الاضطهاد المدمر” الذي تعرض له الفنان، الذي اشتهر بخفة الدم والظل، سواء في التمثيل أو الغناء.
يكشف أن رجال نظام عبد الناصر “انتقموا من فوزي لا لشيء سوى لصداقته مع اللواء محمد نجيب” الذي اعتبره أنصار ناصر في مجلس قيادة ثورة 23 يولي/تموز عام 1952 في مصر خصما ينازع ناصر الحكم والزعامة.
ان نجيب من أنصار تحقيق هدف الثورة في إقامة حياة ديمقراطية سليمة. فسعى لعودة الأحزاب ورجوع الجيش إلى ثكناته بعد أن غيّر النظام. وتمتع نجيب بشعبية كبيرة في الجيش وبين المصريين. غير أن ناصر ورجاله كان لهم رأي مختلف وتخلصوا في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1954 من نجيب، الذي وُضع قيد الإقامة الجبرية لا يمارس السياسة لمدة 30 عاماً، ولم يعد يذكر اسمه كأول رئيس لمصر في كتب التاريخ والتعليم.
يكشف الكتاب، الصادر عن “دار بتانة” الثقافية، عن أن علاقة فوزي مع نجيب كانت “سبب المشكلة” بين فوزي ونظام عبد الناصر.
يقول غريب لبي بي سي: “لا يبدو أن فوزي، تحديدا، قرأ المشهد السياسي جيدا”. فهو “لم يدرك لا موازين القوى في اللحظة التالية لقيام الثورة، ولا إلى أين تتجه هذه الموازين في المستقبل القريب، فراح يدفع نفسه إلى مقدمة الصورة في كل المشاريع القومية التي قادها محمد نجيب”.
ويظن غريب أنه “لو كان فوزي قد أدرك جيدا المشهد، كما فعلت أم كلثوم، لربما كان قد تجنب كثيرا مما وقع له لاحقا”.
ولأنه لم يدرك المشهد أو ربما لم يكن يعبأ، فإنه ظل على تأييده للواء نجيب، كما نشأت علاقة متينة بينهما بسبب “اقتناع فوزي بالعهد الجديد ورموزه والالتحام بالمشاريع الوطنية الأولى التى نادى بها ودعمها نجيب”.
أم كلثوم تتخلص من أغانيها
وينشر الكتاب صورا نادرة لفوزي مع نجيب وسط محبيه وهو يدشن مشروعات خيرية خدمية في أنحاء مصر. و”رغم أن فوزي لم يكن حتى من هواة الحديث فى السياسة، فإنه لم يتخلف مرة عن اللقاءات التي كان يجريها اللواء محمد نجيب مع رجال الفن”.
ماذا فعل الفنانون الآخرون؟.
يعتقد غريب أن أم كلثوم وعبد الوهاب، ثم عبد الحليم حافظ لاحقا، كانوا أكثر قراءة للمشهد السياسي واستغلالا لنفوذهم واتصالاتهم السياسية لحماية مصالحهم بعد زوال الملكية وإعلان الجمهورية.
ويشير الكتاب، في هذا السياق، إلى أن أم كلثوم، مثلا، “استوعبت المشهد السياسي جيدا ونصحها أصدقاؤها ومستشاروها ذوو المعرفة السياسية بأن عبد الناصر هو الأقوى والقائد الفعلي للثورة”، ولذا فإنها ذهبت بعد أيام قليلة من قيام ثورة يوليو 1952 إلى مبنى الإذاعة المصرية من أجل التخلص من كل أغنياتها التى كانت قد تغنت بها للملك فاروق قبل الثورة. ونشرت لها مجلة الكواكب في 5 أغسطس 1952 ( أي بعد 12 يوم من بداية الثورة) صورة وهى تفعل ذلك.
ويقول غريب في كتابه إن “عبد الناصر بقي، حتى رحيله عام 1970، هو الغطاء السياسي الذي وفر الحماية والنفوذ لكوكب الشرق”.
ويبرهن الكتاب الجديد أيضا على أن النفوذ السياسي للفنانين المصريين في هذه المرحلة وفر الحماية لمصالحهم. ويكشف، لأول مرة، عن وثيقة تؤكد أنه بفضل العلاقات السياسية “سعى الفنان محمد عبد الوهاب لدى الملك عبد العزيز آل سعود كى يتدخل لدى قيادة الثورة عام 1953 لتغض الطرف عن ثروته وثروة أم كلثوم”.، أي يستثنيهما من قرارات مصادرة الأموال والممتلكات.
وينشر الكتاب بهذا الخصوص خطابا صادرا في الرابع من يونيو/حزيران عام 1953 عن ممثل المملكة العربية السعودية في مصر، وموجها إلى نجيب الذي كان رئيسا للدولة ومجلس قيادة الثورة، قبل الأزمة الفاصلة بينه وبين ناصر.
“سابقة في الحياة الفنية”
ماذا فعل النظام، لاحقا، مع فوزي، صديق نجيب؟ . في عام 1961 مارس نظام عبد الناصر تضييقا واضحا على فوزي، كما يقول الكتاب.
وأحد أهم مظاهر هذا “التضييق” هو “فرض الحراسة على موزع أفلامه الوحيد في الداخل (وهو) شركة منتخبات بهنا فيلم – بهنا إخوان- بمقريها في القاهرة والإسكندرية”.
ويصف غريب هذا التصرف بأنه “سابقة لم تعرفها الحياة الفنية في مصر من قبل أو من بعد”. وأدى إلى أن “غُلت يدا محمد فوزي داخليا وخارجيا في تمويل وتوزيع أفلامه بخلاف المبالغ المالية التي كان قد تكبدها في التجهيز لهذه الأفلام.”
وينقل المؤلف عن السيد بازيل بهنا، الوريث الوحيد لعائلة بهنا والمقيم حاليا بالإسكندرية قوله إن أفراد العائلة “لم يستبعدوا – في حينه – أن يكون المقصود بفرض الحراسة على بهنا فيلم هو محمد فوزي نفسه لأنه كان حدثا فريدا وتزامن مع ما وقع بشكل مباشر لمشاريع وممتلكات محمد فوزي” .
ويقول الكتاب: “استولت الدولة على شركة مصر فون لصاحبها محمد فوزي دون شركة صوت الفن لصاحبيها عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ لتبقى صوت الفن وحدها تقريبا بلا منافس في سوق الإنتاج الغنائي بعد أن أجبر المشاغب الأول محمد فوزي على الانسحاب من الساحة”.
مؤرخ سينمائي “يحطم كثيرا من الأساطير” حول الممثلين اليهود في مصر
“أسرار جديدة عن ملاحقة المخابرات المصرية” لعبد الحليم حافظ وسعاد حسني
مديحة يسري: رحلة عطاء أثرت الحياة الفنية في مصر
ولم تقف ملاحقة فوزي عند هذا الحد، بل امتدت إلى الطعن في فنه، حسب الكتاب. فكانت “إثارة حالة من الكراهية بين السينمائيين تجاه فوزي لدرجة بلغت التقليل من موهبته والتحريض عليه ” مظهرا آخر للاضطهاد من جانب النظام.
ويضرب الكتاب مثالا على ذلك برسالة وصفها بأنها “مفجعة” بعث بها المخرج حسين فوزي (الذي لا علاقة قرابة له بمحمد فوزي) سنة 1959 إلى شركة بهنا فيلم يصف فيها محمد فوزي بأنه “فاشل ومحدود الموهبة”.
ويستغرب المؤلف هذا الموقف، قائلا إن الفنان الراحل كان مؤيدا لثورة 23 يوليو ولأفكارها، لكن مشكلته أنه “كان يغني للثورة وليس للثوار”.
علامات استفهام
ويشير الكتاب إلى أنه رغم علاقة فوزي القوية بنجيب، فإنه “لم يتوقف عن الغناء للثورة لا للأشخاص بعد عزل نجيب. ولم يترك حدثا وطنيا كبيرا إلا وغنى له… كذلك تغنى بالاشتراكية والعدالة وحقوق العمال وبكل مكاسب الثورة المصرية في أكثر من أغنية وطنية” .
ويضيف “لم يغفل فوزي في غنائه التوجه القومي الذى انتهجه عبد الناصر . فغنى للكثير من الدول العربية : لوحدة مصر والسودان غنى ، مثلا ، “يا وادى النيل يا غالي” ، وللعراق غنى ” تحية يا ابنة الرشيد ، ولثورة اليمن أنشد ” الشعب لازم ينتصر ” ولمشروع الوحدة بين مصر وسوريا والعراق سنة 1963 غنى ” علم الثوار” ، وحتى لأفريقيا غنى ” أفريقيا شعبك حر”.
أكثر من ذلك، ساهم فوزي في جمع التبرعات لدعم مشروعات ناصر الداخلية، كما يكشف غريب.
وحسب الكتاب، فإن فوزي “تزعم، أثناء رئاسته لجمعية المؤلفين والملحنين، حملة لجمع التبرعات من جانب أعضاء الجمعية لصالح إعادة إعمار مدينة بور سعيد بعد العدوان الثلاثي سنة 1956 . وقام مع وفد الجمعية بتسليم الرئيس عبد الناصر شخصيا هذه التبرعات في اللقاء الوحيد تقريبا الذى جمعه بالرئيس المصري، دون أن يتوقف عن المشاركة بالغناء في الحفلات العامة التي ترتبط بمناسبات رسمية”.
وهنا يضع غريب علامات استفهام عن علاقة عبد الناصر شخصيا بمعاناة الفنان المحبوب.
لم يجزم المؤلف، في كتابه، بعلم الزعيم الراحل باضطهاد فوزي.
ويتساءل “هل لم يكن عبد الناصر يعرف بالإيذاء والضرر الواقعين على فوزي أم كان ولاء فوزي لخصمه اللواء محمد نجيب ما زال ماثلا في ذهنه؟ هل حِيلَ بين صوت فوزى وبين الرئيس على أعتاب مكتبه الذى كان يديره السيد سامى شرف الذى سبق وطلب يد السيدة كريمة (زوجة فوزي الثالثة) قبل زواجها من محمد فوزى وأيضا بعد رحيله؟ ”
يرجح الكتاب وجود علاقة بين اضطهاد النظام لفوزي وبين تأميم ممتلكات بمرضه. وينقل عن زوجته كريمة قولها، في مقابلة صحفية، إنه بعد التأميم “لم يعد فوزي هو ذلك الرجل الذي تعرفه. فقد دخل فى حالة اكتئاب دائم حتى وإن حاولت روحه المرحة التغلب على ذلك الاكتئاب . وبدأ ينعكس هذا على حالته الصحية وشهيته للطعام. ومن ثم دخوله فى دوامة المرض اللعين (السرطان).
“تهديد لكاريوكا”
وهنا يستدعي الكتاب، مرة أخرى، أهمية النفوذ السياسي للفنانين.
وينقل المؤلف عن رواية روتها له شخصيا الفنانة الراحلة تحية كاريوكا ملخصها أنها تلقت تهديدات صريحة من شعراوي جمعة، وزير داخلية نظام عبد الناصر، بأن تكف عن الكلام في موضوع علاج فوزي ومطالبتها الدولة بأن تتحمل النفقات.
ويضيف غريب أن أم كلثوم تدخلت، حسب رواية تحية، لدى عبد الناصر وأقنعته، رغم محاولات سامي شرف قطع الطريق عليها، بإصدار قرار بسفر فوزي للعلاج بأمريكا. وصدر القرار في 9 ديسمبر/ كانون الأول عام 1965 أي بعد نحو أربع سنوات من بداية خطوات تأميم كل ممتلكات محمد فوزى ودخوله في دوامة المرض.
وبعد نحو 11 شهرا ، توفي الفنان ذو الشعبية الكبيرة عن 48 عاما، وشارك عشرات الألوف في الجنازة.
يقول غريب “المدهش أن د . عبد القادر حاتم ( وزير الإرشاد القومي في ذلك الوقت) الذى ماطل طويلا في علاج محمد فوزي على نفقة الدولة كان على رأس المشيعين”.
ويؤكد أن فوزي “عاش غير محب للسياسة لكنه انكوى بنارها. فقط كان محبا لبلده ومصلحة هذا البلد، ولذلك آمن بثورة يوليو حتى لو لم تؤمن به هذه الثورة وساند مشاريعها وتوجهاتها حتى لو لم يلق المساندة من قادتها”.
نقلا عن بي بي سي