“الذئاب لا تُنسى” ومتواليات الذاكرة للكاتبة السورية لينا هويان الحسن
النشرة الدولية –
الأعمال الروائية التي خرجت من أتون ما يسمى بالربيع العربي ورافقت تطورات هذا الحدث على مُختلف الأصعدة، مُتقاربة في أنساق الصياغة والتركيب، كما تصبحُ تلك السرديات المُحملة بمواقف أيديولوجية مَنصةٍ للحديث عن تجارب ذاتية ولا يتمترسُ مؤلفوها وراء أسماء مستعارة، وغالبا ما يكون الحكي بضمير المُتكلم البيوغرافي، وبذلك يسقطُ الحاجزُ الفاصل بين الرواية والسيرة الذاتية، لاسيما عندما لا تزاحم الشخصيات المتحركة في فضاء العمل صوت الراوي الذي ما هو إلا الكاتبُ، فضلاً عن تحول قصة الأخير إلى وحدة أساسية في بناء الرواية العنصر الأساسي في منظومة السرد، وهو يتمثلُ في الحدث الذي تنطلقُ منه مغامرة الكتابة.
عطفاً على ماذكر أعلاه فإنَّ ما تتصفُ به روايات هذه المرحلة هو تراوحها بين زمنين، تستعيدُ ما كان يسود من التواؤم بين مكونات الحاضنة المكانية التي تؤطر العمل مقابلَ زمن العنف الذي يستحيل التآلف معه بعد تبدد حلم الثورة، فبالتالي يغدو المكان طارداً.
هذا ما نملسهُ بوضوح في الروايات السورية التي تغطي ما يكابده الإنسان في ظل ما هو قائم من الحروب بالوكالة والإحتراب بين أبناء البلد، ولا تنفصل رواية “الذئابُ لا تُنسى” للينا هويان الحسن (دار الآداب 2016) من حلقة سرديات الحرب، إذ تتكيءُ الكاتبةُ على تجربتها الموجعة لترتيب المادة السردية، كما تتوارد في السياق ذاته ما هو متداول من حكايات تاريخية، يتشابكُ كل ذلك مع ما عاصرته صاحبة “بنت الباشا” من الوقائع في البيئة البدوية.
يُذكر أن مُناخ البادية يلقي بظلاله على مُعظم أعمال لينا هويان الحسن خصوصاً رواية “بنات النعش” التي تتبعُ ما يدور في براح الصحراء من صراعات مُحتدمة في لحظات تاريخية فارقة.
نص ذاتي
يتخذُ فعلُ الكتابة في أجواء الحرب وظيفةً صيانية وهي محاولة لوقف خطر اندثار المعطيات الحياتية من خلال العودة إلى ما اختزنته الذاكرةُ من الصور والأحداث، وأنماط العيش المتنوعة، وتدوينها قبل أن يلفها النسيان، لذا ليس من المستغرب أن تتحكم ثنائية الذكريات وتطورات واقع مرعب بخط “الذئاب لا تُنسى”، إذ تسترجعُ الكاتبة في القسم الأول من الرواية فجيعة ذئبة بصغيرها، ما يجعلُ صوت عوائها مُختلفاً ومديداً مشحوناً بأثر الوجع، ومن ثًم يقفزُ الزمنُ ويتخذ السردُ منحى ذاتياً يعبرُ عن تجربة حزن الكاتبة بمقتل أخيها، كأن ما سمعته قبل ثلاثين سنة تفهمها أكثر بعد ما يغيبُ الموت من كان صديقاً وأخاً بالنسبة إليها، وما برحُ عواءُ الذئبة يترددُ في ذاكرة الراوية على امتداد الرحلة من دمشق إلى القرية وهى مرتع الصبا وموئل ذكريات الطفولة.
غير أن الطريق إلى هذا المكان أصبحت محفوفةً بالمخاطر ودونها الحواجز التابعة لجماعات وفئات مُسلحة، وهي ما أن تبسطُ سيطرتها على بقعة حتى تعلنها محمية خاصة بها، زدْ على ذلك أن مرورا بهذه المناطق يفرضُ نوعا مغايراً من الملبس والتكتم على هويتك المذهبية وإنتمائك القومي، إلى جانب ذلك تنقلُ عدسة الراوية مشهد القصف ومظاهر العسكرة، وتتوقف عند اللحظات التي يتزايدُ فيها القلق والتوتر عندما تترقبُ بمعية اثنين من أفراد أسرتها ابن العم ليرافقهم إلى ديرة الشبل، ويتبعُ ذلك إستعادة تفاصيل اختطاف الأخ وحدس الأم بما سيحل بأحد أبنائها، ورحلة وائل للعثور على جثة أخيه الذي لم يكن جزءاً من لعبة الإصطفافات ولم يعلمْ بأنه سيكلف بروحه ثمن مواقف والده وعدم إنسياقه وراء التهديدات والمطالبات الملحة للإنضمام إلى جماعات مُسلحة.
يشارُ إلى أنَّ سوداوية المشهد لا تمنع الكاتبة من الإلتفات إلى الطبيعة إذ يذكرها نبات عباد الشمس المتناثر في الطريق بفان كوخ كما تتملى السراب، ولا يقطع تتابع هذه الصور سوى ظهور حاجز جديد، تقابلُ الرحلة إلى ديرة الشبل عملية التنقيب في الذاكرة حيث تسترجعُ الراوية موقفها المُتضامن مع المُتظاهرين ورؤية صديقها المناويء للحراك.
هنا تمررُ مؤلفة “ألماس ونساء” مفردات وملفوظات تقرن الثورة بخيبة الأمل وصعود الرعاع، ما لا يستسيغهُ المُتلقي في هذا المقام ليس نقد الثورة لأنَّ كل الأعمال الأدبية تمتلك وظيفة نقدية على حد قول لوسيان غولدمان، بل النبرة الخاطبية التي لا تخدم مبنى الرواية.
ومما يجعل هذا النص ذاتيا أكثر هو ذكر أسماء أفراد الأسرة، وإشارة الكاتبة إلى مجال تخصصها في الفلسفة وإقتناعها بأنَّ الفلسفة لم تعدُ تنفع طالما تكاثر الوعاظ، ويَكون الإنسان مستهدفاً حالما يعرف حراس الأخلاق بأنَّه يخالف شرائعهم أو لمجرد حصوله على الشهادة في دولة الكفُر.
ميثولوجيا البادية
البادية هي البيئة التي تمتحُ لينا هويان الحسن من نبع أساطيرها وحكاياتها الحميمة ومعالمها الأثرية مادة أعمالها الروائية وهي تشير إلى ذلك في “الذئاب لا تُنسى” كما أن ذلك الفضاء المُتاخم مع السماء يلهمُ حكماً بصمته ورهبته وكائناته، يتفاعلُ هذا النص مع حكاية قصر ابن وردان ونبوءة العراف للملك بأن ابنه سيموت بلدغة العقرب الأمر الذي دفع بالأب لبناء قصر حصين، الأكثر من ذلك فإن نتفاً من قصص عمة فريال وما روته عن الكائن الخرافي (كفتار) تتحد بمتن الرواية، ضف إلى ذلك ما تذكره الراوية عن دراية أهل البادية في قراءة حركة النجوم، وما يتناقلونه عن قصص العشق القاتل، إذ تحول بعض أبطالها إلى أسطورة يعتقدُ الناسُ بأنهم سيظهرون في صورة الشبح، فـ الخاتون عشمة التى أغرم بها الضابط الفرنسي وهربت بصحبته تتنهي حياتها بتراجيديا وحيثُ تُتقلُ تلوح الأشباح ما أدي إلى مقاطعة الناس لهذه الطريق، ولا يكون مصير ونسة الإيزيدية أقل مأساوية فالأخيرة نذرت نفسها للدير لكن عشقها لشاب بدوي يصطاد الصقر في سنجار يغيرُ ما ظنت أنه قدرها.
ما يجبُ الإشارة إليه أنَّ قصة ونسة تجذبُ المتلقي أكثر من قصص مُتضمنة في النص، وذلك لأنَّ الراوية قد راقبت تفاصيلها ولم تتلقها على لسان الآخرين، كما أن سردها أتى مُتدرجاً في فقرات مُتعددة، فإن بعض العشاق تخلد الآبار التي سميت بأسمائهم ذكرى طيش الحب وشراسة التزمتز
توظف الكاتبة فوتوغرافا لملأ فجوات الذاكرة لاسيما في الأجزاء التى تتناول فيها حياة أسرتها في مناسبات مختلفة، المحطة الأخيرة التي تلملمُ منها الراوية شظايا ذكرياتها وصورة قريتها تحت الأنقاض هي مدينة عالية اللبنانية التى استقر على كنفها أفراد العائلة حيث كبُر الصغار، ولكن الحرب التى سلبتهم الوطن والأب لا تزال مشتعلة، كما أن فاطمة زوجة ياسر لم يغاردها اللون الأسود.
ما نستخلصه من هذه الرواية السيرية أن ما يجري في سوريا هو حرب الكل ضد الكل.