مفاتيح الجنة!

 

أتذكّر عام 1982 عندما كنت طالباً بجامعة بغداد كان التلفزيون العراقي يبث يومياً برنامجاً اسمه “صور من المعركة” أي صور من الحرب مع إيران، وكان هذا البرنامج يركز بصورة خاصة على الأسرى والقتلى من الجانب الإيراني. وفي أحد الأيام شاهدت أسرى وصوراً لبعض القتلى الإيرانيين يضعون مفاتيح حول أعناقهم، وكان معلق التلفزيون العراقي الذي يتحدث الفارسية ينقل للمشاهد العراقي تبرير وتفسير وجود هذه المفاتيح على أعناق الجنود العراقيين.

كان التفسير صدمة كبيرة لي، فلم أكن اتوقع أن هناك جهلاً بهذا المستوى متغلغلاً في عقول وقلوب أناس يقدمون أرواحهم من أجل فرضية لم يتحدث عنها الإسلام نفسه.

وكان التفسير يقول إن هذه المفاتيح قد باركها “الإمام آية الله الخميني”، ومن يلبسها ويموت في المعركة مصيره الجنة، وإن المفتاح الذي في رقبته هو مفتاح باب الجنة الخاص به.

بحكم عوامل كثيرة ثقافية وفكرية وسياسية اعتقدت أن ما نقله المترجم أو المذيع العراقي هو نوع من الدعاية السياسية المضادة لتشويه صورة الخميني وحكمه لإيران وإظهار مدى التخلف والبدائية في هذا الحكم، غير أن الحقيقة ظهرت لي بشكل جلي بعد ست سنوات أي في عام 1986، بعدما تخرجت من الجامعة وعملت في جريدة الوطن الكويتية وكلفت في نهاية ذات العام بالذهاب للمعركة وتغطية معركة مهمة هي معركة جزيرة “أم الرصاص” الواقعة في شط العرب، شاهدت تلك المفاتيح حول أعناق الأبرياء من أطفال وشباب وشيوخ ، وشاهدت بالمقابل كيف كان الجيش العراقي يبيد هؤلاء بالأسلحة الكيماوية. كان المشهد بصورة عامة “يؤشر أن الحرب” هي حرب تلاعب في العقول، فمن جهة كانت الدعاية الصدامية تقول إن العراق يدافع عن الأمة “وبوابتها الشرقية” والمقصود هنا الحدود مع إيران، بينما إيران تقول إن الحرب على نظام صدام حسين كانت من أجل انهاء “نظام عميل” من أجل تحرير القدس، ورفع وقتذاك شعار “الطريق للقدس يمر عبر بغداد”.

هذه من صور التلاعب في العقول وصناعة السلوك، وجريمة نيوزيلندا لا شك في أن منفذها تعرض لشيء شبيه لما تعرض له ” لابسو مفاتيح الجنة”، أي غسل الدماغ وحشو أفكار جديدة فيه، وغسل الدماغ علم حقيقي وليس وهماً أو نوعاً من الخيال العلمي وهو بكل بساطة عملية تراكمية لأفكار معينة أحياناً تحتاج لفترة زمنية وأحياناً قد لا تستغرق ذلك الوقت الطويل، وذلك حسب حالة الشخص المراد غسل دماغه واستعداده النفسي والفكري لتقبل الأفكار والقيم الجديدة.

القتلة الذين يقدمون على قتل الابرياء تحت أي عنوان من العناوين هم بأي حال من الأحوال تعرضوا لغسل دماغ دفعهم لقتل أناس لا يعرفونهم شخصياً ولا عداوة معهم، ولذلك فإني أفترض أن غسل الدماغ عبر الدين هو من أسهل العمليات فيما اعقدها القناعات الإيديولوجية أو السياسية.

“جزار نيوزيلندا”، هو أحد الموعودين بالجنة بصورة أو بأخرى، وعنصريته وقناعاته المريضة بأن المهاجرين المسلمين هم أعداء له، لا تختلف إطلاقاً بالمظهر ولا بالجوهر عن مشهد القتلى والأسرى الإيرانيين والذين اكتشفوا لاحقاً ان مفاتيح الجنة التي يلبسونها هي صناعة “تايوان”، ودرجت نكتة مشهورة في العراق والخليج العربي وقتذاك تقول “جنة تايوان”.

إمارات 24

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى