هل تبدّلت مكانة الأردن الاستراتيجية، وكيف؟* عريب الرنتاوي

النشرة الدولية –

استمد الأردن بعضا من مكانته الاستراتيجية من موقعه الجيو-استراتيجي، بوصفه “منطقة عازلة” بين إسرائيل والخليج، أو بلغة أخرى، بين أهم مصلحتين استراتيجيين للغرب في المنطقة: إسرائيل والنفط. لكن هذا الموقع لم يكن وحده مصدرا لتلك المكانة، ففضلا عن هذا العامل الحيوي، احتضن الأردن لأربعة عقود، الجزء الأكبر من الفلسطينيين منذ 1948 وحتى فك الارتباط بين الضفتين 1988، ولا يزال اليوم، يحتض ما لا يقل عن أربعة ملايين فلسطينيي على اختلاف مكانتهم القانونية، مواطنين أو مقيمين، وفقا لعديد التقديرات.

أضف إلى ذلك، أن الأردن نجح مبكرا في بناء مؤسسات دولة حديثة، مدنية وعسكرية وأمنية، مكنته من حفظ أمنه واستقراره، واستتباعا أمن واستقرار الدول المجاورة له، مستبقا دول الخليج العربية بسنوات وعقود، وأنشأ نظاما تعليميا متطورا نسبيا، وتوفر على الأيدي العاملة الماهرة والمدربة، وكانت له إنجازاته المتميزة في ميادين الصحة والأشغال والبنى التحتية، وغير ذلك من قطاعات حيوية، جعلته موئلا للخبرات التي تحتاجها ممالك الخليج وإماراته ومشيخاته الناشئة في عمق الصحراء وعلى حوافها.

إسرائيل والأردن، ما الذي تغير؟

تاريخيا، نظرت إسرائيل إلى الأردن، بوصفها هذه “المنطقة العازلة”، التي تصد عنها رياح التغييرات العاصفة التي تضرب المشرق العربي، وتحديدا في سوريا والعراق، وافترضت “نظرية الأمن الإسرائيلية” أن من مقتضيات بقاء الدولة الأردنية واستقرارها، الحيلولة دون تمكين فصائل المقاومة الفلسطينية من الاحتفاظ بموطئ قدم لها على امتداد جبهة حدودية تمتد لأزيد من 600 كلم… والأهم من هذا وذاك، أن وجود غالبية الفلسطينيين على ضفتي النهر تحت الحكم الأردني، من شأنه أن يحول دون تطور “كيانية/ هوية فلسطينية” مستقلة، ستصطدم بصورة موضوعية وتلقائية مع “الكيانية/الهوية الإسرائيلية/اليهودية” الناشئة.

لا يبدو أن مكانة الأردن من منظور استراتيجي خليجي، ظلت على حالها

خلال السنوات الخمس والعشرين التي أعقبت قيام السلطة الفلسطينية وتوقيع معاهدة وادي عربة بين الأردن وإسرائيل، طرأت تغيرات كبيرة، أسهمت وتسهم في إحداث تغيير جوهري في نظرة إسرائيل للأردن، واستتباعا، أحدثت تغيرا جوهريا في مكانة الأردن من منظور استراتيجي إسرائيلي:

التطور الأهم، أن إسرائيل أخذت تتعايش مع فكرة قيام “كيانية فلسطينية خاصة” المنطقة الممتدة من نهر الأردن وحتى شواطئ المتوسط الشرقية… حدث الاختراق الأول، في صفوف معسكر العمل الصهيوني، في العام 1993 عندما قبل اسحق رابين وشمعون بيريز بتوقيع اتفاق مع منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني، وسمحا بقيام سلطة فلسطينية عل ما يقرب من 40 بالمئة من مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة، قبل أن يحدث الاختراق الثاني، ويأتي نتنياهو على رأس الليكود ليستكمل أوسلو باتفاق الخليل وإعادة الانتشار من أكبر المدن الفلسطينية، وصولا إلى خطاب “بار إيلان” الذي عُدّ انقلابا في معسكر اليمين الصهيوني وبداية قبول بفكرة “الكيان الفلسطيني الخاص” إلى جانب إسرائيل، وربما تحت إبطها، بين النهر والبحر.

بهذا المعنى، فقد الأردن دورا لطالما تطلعت الحركة الصهيونية أن يقوم به، وهو الإسهام في تبديد الهوية الفلسطينية والحيلولة دون قيام كيانية فلسطينية مستقلة أو خاصة، وصار بالإمكان التعامل مع الفلسطينيين مباشرة، والتفاوض مع سلطتهم ومؤسساتها وأجهزتها… لم يعد للأردن دورا حاسما على هذا الصعيد.

إلى أن تتالت الانقلابات اليمينية داخل إسرائيل، وانتقل “مركز الخارطة الحزبية” الإسرائيلية باتجاه التطرف الديني والقومي، وهي عملية تحدث على نحو منهجي منظم، وتبرز تداعياتها مع زيادة أعداد المقاعد التي يحتلها اليمين الديني، كنيست بعد آخر، وانتخابات بعد أخرى، إلى أن انتهينا اليوم إلى احتلال هذا التيار ما يزيد عن ربع مقاعد الكنيست، مع أن حجمه في الواقع أقل من 15 بالمئة من الرأي العام الإسرائيلي… الانجراف نحو التطرف (العلماني/ القومي) و(الديني/الأرثوذكسي)، وتعاظم الأدوار التي يضطلع بها “لوبي الاستيطان” في رسم السياسات الإسرائيلية وتقريرها، أفضى إلى حدوث تغيير جوهري في نظرة إسرائيل، أو التيار المركزي فيها، للأردن من حيث دوره ومكانته كذلك.

الصهيونية اليهودية، باتت تملي أجندتها وأولوياتها على الحكومات والائتلافات الحاكمة في إسرائيل… ابتلاع مساحات واسعة من الأرض الفلسطينية، السيطرة على القدس بوصفها العاصمة الأبدية الموحدة، تغليف السياسة الإسرائيلية بغلاف عقائدي ديني… كل ذلك بدأ يصب في طاحونة التنكر للدور الأردني، ومن ضمنه رعاية المقدسات الإسلامية في القدس، ومن ضمنه فرض شروط للحل النهائي تمس بأعمق مصالح الأردن وحساباته، وفي القلب منها قضية اللاجئين… ويمكن القول إن “الكيمياء” باتت منعدمة بين المستويين السياسيين الأردني والإسرائيلي… وإن الأردن بات ينتظر المزيد من المواجهات السياسية مع إسرائيل.

والخلاصة التي ينتهي إليها أي بحث أو نقاش حول العلاقة الأردنية ـ الإسرائيلية هذه الأيام، تنتهي للقول: إن إسرائيل التي وقعت معاهدة سلام مع الأردن قبل ربع قرن، لم تعد هي ذاتها اليوم، وإن انجرافاتها نحو التطرف الديني والقومي، يجعل منها تهديدا، بلغ حد وصفها بـ”العدو” بدل ذكرها بالاسم، على لسان العاهل الأردني شخصيا.

الأردن والخليج، ما الذي تغير؟

“عوامل قوة” ثلاثة، طبعت علاقة الأردن بشقيقاته الخليجيات منذ ستينيات القرن الفائت، بل وخمسينياته:

الدعم العسكري والأمني الذي وفره الأردن لمعظم، إن لم نقل جميع هذه الدول (حرب اليمن الأولى، أزمة ظفار في سلطنة عمان، البحرين في أكثر من واقعة، السعودية/ واقعة الحرم وجهيمان) فضلا عن إسهامه النشط في بناء وتطوير المؤسستين العسكرية والأمنية في عدة دول خليجية في مراحلها التأسيسية الأولى.

“القوة الناعمة” المتمثلة في الموارد البشرية الماهرة والمدربة والمتعلمة، التي أسهمت بشكل فعّال في بناء نهضة هذه الدول في بداياتها الأولى وفي شتى مجالات التربية والتعليم والصحة والانشاءات والبنى التحتية والحرب ومؤسسات القطاع العام والصحافة والإعلام وغيرها من ميادين وحقول.

دور الأردن لا بوصفه “منطقة عازلة” عن إسرائيل في مراحل معينة فحسب، بل وفي كونه جسرا لتبادل الاتصالات السرية بين حكومات بعض هذه الدول من جهة وإسرائيل من جهة ثانية.

وبنظرة إلى الوراء، نرى أن جميع “عوامل القوة” هذه قد تبدلت أو تراجعت مكانتها وأهميتها بالنسبة لدول الخليج حيث تتكدس أفضل أنواع الأسلحة التي تنتجها أهم الصناعات الحربية العالمية، وتتوزع القواعد العسكرية الغربية على في مياه دول الخليج وصحاريها، وحيث تحتفظ هذه الدول بأرقى أشكال التنسيق الأمني مع مختلف أجهزة الاستخبارات العالمية، واتفاقيات الدفاع المشترك (الحمائية) التي لم تبق دولة واحدة لم تبرم العديد منها مع المراكز والعواصم الدولية.

ودول الخليج الست، ومن دون استثناء، تنتهج منذ سنوات سياسات “توطين العمالة” بعد أن نجحت في تخريج ملايين المتعلمين والمبتعثين، وبعد أن فتحت أبوابها لأرقى وأهم الجامعات في العالم لإنشاء فروع لها في المنطقة، وبعد أن طرأ تطوير نوعي مذهل على أنظمة الصحة والتعليم والخدمات بعامة في هذه الدول، وبصورة تتفوق وتسبق الحال القائم في الأردن.

يمكن القول إن “الكيمياء” باتت منعدمة بين المستويين السياسيين الأردني والإسرائيلي

أما العلاقة مع إسرائيل، فلم تعد بحاجة لوساطة أو وسطاء، فالاتصالات المباشرة بين معظم هذه الدول الخليجية وإسرائيل تسير على قدم وساق، ونتانياهو وأركان حكومته، فضلا عن الفرق الرياضية والوفود غير الرسمية، لا تكف عن زيارة عواصم خليجية عديدة، وبصورة رسمية ومعلنة، وتحظى بحفاوة واستقبال، لا تحظى بمثله في الأردن، حيث تتزايد حركات مقاومة التطبيع وتجرف إلى صفوفها فئات متزايدة من الأردنيين.

لكل هذه الأسباب، وأخرى غيرها، لا يبدو أن مكانة الأردن من منظور استراتيجي خليجي، ظلت على حالها، وهي مرشحة لمزيد من التراجعات في المرحلة القادمة، حيث يتناقص اهتمام دول الخليج بحاجات الأردن ومصالحه، وتبدي عواصمها رغبة أقل في تعزيز وتدعيم علاقاتها الثنائية مع عمّان.

هذا التبدل في مكانة الأردن الاستراتيجية من المنظورين الإسرائيلي والخليجي، أفضى إلى تفشي حالة من “انعدام اليقين”، مصحوبة أحيانا بـ “حالة من الإنكار”، في أوساط المسؤولين وصناع القرار الأردنيين سواء بسواء، ويجري ربط هذا التراجع، بالحديث عن “صفقة القرن”، التي يعتقد الأردنيون جميعا، أو غالبيتهم على الأقل، بأن بلادهم ستكون ثاني أكبر متضرر منها بعد الفلسطينيين أنفسهم، وأن ما نشهده من تجاهل خليجي لاحتياجات الأردن ومصالحه، إنما يستهدف تحضيره ورفع جاهزيته لاستقبال مخرجات هذه الصفقة وتداعياتها… إنها لحظة حرجة في السياسة الأردنية، تزداد تعقيدا وإثارة للمخاوف، كلما اقترب موعد الكشف عن “صفقة القرن”.

الدستور الأردنية

زر الذهاب إلى الأعلى