نيوزيلندا والإرهاب.. سيكولوجية التلقي* محمد المحمود

النشرة الدولية –

في أقصى الجنوب الشرقي من عالمنا المُروّع بالإرهاب المتعولم، وفي بلد من أكثر بلاد العالم أمانا ورفاهية وانفتاحا على الآخر، قام أحد العنصريين بعمل إرهابي ضد المسلمين بما هم مسلمين، منتهكا بجريمته قدسية براءة الأرواح المسالمة، وقدسية المكان الآمن، مُخلفا وراءه أكثر من خمسين قتيلا، ومثلهم من الجرحى الذين يشكلون بؤرة المأساة التي تنداح مأساويتها لتشمل ـ بشكل مباشر ـ المئات وربما الآلاف، ولتطعن ـ بشكل غير مباشر ـ قلب الضمير الإنساني في الصميم.

ولعل مما يزيد الجريمة بشاعة على بشاعتها في صورتها الأولى أن المجرم ظهر متباهيا بجريمته عبر تصويرها بالبث المباشر، فبدا وكأنه يمارس بعض هواياته أو مغامراته الرياضية المثيرة التي تستحق أن يستمتع بها الجميع. بمعنى أن المجرم ارتكب جريمته في الوقت الذي يمارس فيه تطبيعها؛ وكأنه لا يرتكب جريمة، بقدر ما يلهو ويلعب، ويطلب من الآخرين الاستمتاع بلهوه الطبيعي/الجميل!

الإرهاب ينتسب إلى دوافعه ومبرراته الواقعية أو المتخيلة، ولس إلى دين أو بلد الإرهابي

وكما هو متوقع تماما؛ لقي هذا العمل الإرهابي الشنيع استنكار العالم أجمع، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وأكدت كل عواصم العالم المتحضر ـ بمثقفيها، وإعلاميّيها، وكبار ساستها؛ فضلا عن جماهيرها ـ إدانتها الكاملة لهذه الجريمة، وإدانة الفكر العنصري الذي يقف وراءها. بل وسارعت كثير من القوى الاجتماعية الفاعلة في الغرب، القوى الجماهيرية وغير الجماهيرية، فضلا عن الحكومات المسؤولة، بمبادرات رمزية وعملية داعمة للمسلمين، إذ أكد الجميع، وبكل وضوح، على براءة المسلمين من الصورة السلبية المضافة إليهم بوصفهم إرهابيين محتملين بالضرورة، وفي الوقت نفسه؛ عزّزت الإجراءات الأمنية حول المساجد، وتبرع كثيرون ـ وخاصة في الغرب الذي يُحِيل المجرم العنصري مبررات جريمته إلى ثقافته وتاريخه ـ لحراسة المسلمين أثناء تأديتهم صلاة الجمعة في الأسابيع اللاحقة لهذا الحدث الأليم.

كل هذا طبيعي، طبيعي جدا، ومتوقع في سياقه، من حيث هو عين الواجب، ومن حيث هو اللائق بحضارة استثنائية تشكّلت على مسارات وعي يتغيا الإنسان. لكن، في المقابل، وعلى الضفة الأخرى، على ضفة المجني عليه من حيث الهوية الدينية/ الثقافية؛ كيف كان وقع الحدث، كيف كان وقع الحدث ـ قراءة وتفاعلا ـ بالنسبة للمسلمين؟

يمكن النظر إلى مشاعر عموم المسلمين إزاء هذا العدوان الإرهابي الآثم بوصفها مشاعر أسى عميق يمتزج بغضب عارم؛ كأي بريء يتلقى مثل هذا العدوان السافر المتحدي، العدوان الذي يتعمدهم في هويتهم كمسلمين أولا وأخيرا، وقبل أي شيء آخر. هكذا يتلقى “عموم المسلمين” خبر الجريمة، وفي هذه الحدود الطبيعية (المجردة من أي توظيف مضمر) يفسرونها. ولو كان العدوان على غيرهم لكانت طبيعة الاستجابة ـ كتفسير وكرد فعل ـ هي ذاتها، ولا غرابة في ذلك على أي حال.

لكن، هل هذه “الاستجابة/ طبيعة التلقي” التي نصنفها بوصفها “طبيعية” هي ذاتها عند جماهير المؤدلجين من المسلمين (المؤدلجين بشكل صريح أو غير صريح، مباشر أو غير مباشر) الذين يحملون تصورات أيديولوجية عن كراهية الغرب الحتمية لهم، وعن عدوانه الشامل عليهم، وعن تآمره الأزلي والأبدي، وبالتالي الحتمي، على كل يتعلق بهم من قريب أو بعيد؟

عند المؤدلدجين من المسلمين، فضلا عن المتأسلمين ـ على اختلاف مستويات الأدلجة ـ تجد أن مشاعر الأسى العميق والغضب العارم ليست هي المشاعر الوحيدة التي اجتاحتهم في الأيام الأولى للحادثة الإرهابية. ثمة مشاعر أخرى تتواشج مع هذه المشاعر أو تتقاطع معها، وقد تتغلب عليها أحيانا؛ فتصوغ كل ردود الفعل.

لا يخفى على المتأمل لمسارات ردود الفعل عند هؤلاء المؤدلجين أن ثمة مشاعر فرح خفي بالحادث الإجرامي الذي يتصورون أنهم من خلاله سيدفعون عنهم تهمة الإرهاب التي التصقت بهم بحق أو بغير حق، وتأكدت ـ كتهمة رائجة ـ من خلال وقائع متتالية ينتسب أصحابها صراحة إلى الإسلام/ المسلمين، بل ويبررونها بمفردات دينية من صلب الموروث الإسلامي.

ما أحسَّ به هؤلاء المؤدلجون كمشاعر خفية ـ رغم الألم الطافح على السطح ـ هو أن هذا الحدث يؤكد للعالم مشروعية الإرهاب الإسلامي من حيث هو صورة أخرى مقابلة للإرهاب المسيحي الذي يجسده هذا الحدث (مع أنه حدث عنصري، وليس دينيا؛ كما سنُبيّن لاحقا). أي أن الإرهاب قسمة بين الأديان، فإذا كان الدين المسيحي الذي يشكل الخلفية الثقافية/ الدينية للغرب قد صنع مثل هذا الإرهاب الصارخ بشاعة وشناعة، فلا يجوز ـ وفق تبريرهم هذا ـ لوم الإرهاب الإسلامي، خاصة وأنه يبدو ـ من حيث هو تمظهر لمشاعر الكراهية ـ كرد فعل على كراهية الغرب التاريخية للمسلمين.

إن هؤلاء المؤدلجين، وعموم جماهيرهم، يشعرون أن مثل هذا الحدث الإرهابي الكبير (الذي استهدفهم في ذات رمزيّتهم الدينية: أشخاصا، ومكانا، وزمانا = المصلين/ في المسجد/ وقت صلاة الجمعة) يمنح أفعالهم العنفية/ الأفعال الإرهابية، الأفعال المنسوبة إليهم بقوة الانتساب الديني، مشروعية كونها تعكس أحد طرفي معادلة الكراهية، وبالتالي، فهي ليست كراهية من طرف واحد، وليست ابتدائية في خطاب الأنا؛ بقدر ما هي تفاعلية جدلية؛ فكأنهم يقولون: لا تثريب علينا أننا نكره ونقتل كما يظهر من أقوال وأفعال بعض المنتسبين إلينا/ إلى ديننا، فنحن لا نفعل ذلك لأننا نعشق الكراهية والقتل من حيث كوننا أناسا سيئين بمقتضى طبيعتنا أو بمقتضى طبيعة ديننا، وإنما نفعل ذلك بطبيعة كوننا بشرا/ جزءا من هذا العالم، أي نفعل ذلك لأننا ـ كغيرنا ـ نتموضع في سياق صراع وعنف متبادل محكوم بالكراهية المتبادلة بحكم قانون العلاقة الأزلي بين الأديان/ الثقافات/ الحضارات الذي لا يمكن بحال ـ وفق هذا التصور/ المنطق ـ أن يكون قانون تعايش وسلام!

لهذا، سمعنا صراحة من اتخذ الحدث مناسبة ليؤكد على “الإرهاب المسيحي”. وعندما تحدثت وسائل الإعلام الغربية عن هذا الحدث، وقامت بتشخيصه كواقعة إرهابية مدفوعة بدوافع عنصرية، بادر بعض هؤلاء المؤدلجين المتأسلمين (وبعض القوميين أيضا!) لانتقاد هذا التشخيص الغربي؛ لأنه ـ كما يزعمون ـ يحاول تبرئة الدين المسيحي الذي ينتمي إليه الإرهابي العنصري؛ في مقابل تشخيص كل حدث يقوم به متطرف مسلم بأنه إرهاب إسلامي؛ فهنا يُذكر الإسلام إن كان الفاعل مسلما، بينما لا تذكر المسيحية إن كان الفاعل مسيحيا، وكل ذلك ـ كما يتوهم هؤلاء ـ يحدث عن عمد؛ لتأكيد أن الإسلام إرهابي بجوهره، بينما المسيحية بريئة من الإرهاب.

مشكلة هؤلاء أنها لا يحاولون قراءة الوقائع كما هي، لا يحاولون الفهم/ فهم ما حدث ويحدث في صورته المجردة؛ بقدر ما يحاولون توظيف الحدث للتبرير أو للهجوم، وهم ـ في كل أحوالهم ـ مدفوعين بضدية حارقة تجاه الغرب وثقافة الغرب ودين الغرب وتاريخ الغرب، بل ومستقبل الغرب، متوهمين حقيقة ـ أو صانعين لأوهامهم عن قصد ـ أن الغرب هو عدوهم، المتآمر عليهم منذ كان وكانوا، وأن كل مصائبهم، كل فشلهم، كل صراعاتهم البينية، سببها الغرب، ولا شيء غير الغرب، بل وأن نهضتهم التي يحلمون بها منذ قرنين لن تتحقق إلا بتدهور الغرب وغيابه عن مسرح العالم.

ما أحسَّ به هؤلاء المؤدلجون هو أن هذا الحدث يؤكد للعالم مشروعية الإرهاب الإسلامي من حيث هو صورة أخرى مقابلة للإرهاب المسيحي

 

لو قرأ هؤلاء الوقائع كما تنطق بنفسها عن نفسها؛ لرأوا أن الإرهاب ينتسب إلى دوافعه ومبرراته الواقعية أو المتخيلة، ولس إلى دين أو بلد الإرهابي، فالإرهاب الذي يقوم به المسلم عندما يُوصف بأنه إرهاب إسلامي فإنه يوصف بـ”إسلامي”؛ لا لمجرد كون الفاعل مسلما؛ وإنما لأن خطابه يتكئ ـ وَهْما أو تأويلا خاطئا ـ على الموروث الإسلامي الذي يتشرعن به في محيطه وأمام نفسه. ولا ننسى أن كثيرا من المسلمين العرب إبان المد القومي قاموا بأعمال عنف، فلم يصفها أحد بأنها “إرهاب إسلامي” مع أن الفاعل كان مسلما. والمقصود أن ديانة الفاعل ليست هي التي تحدد انتساب الفعل المستحق للصفة، وإنما دوافعه ومبرراته التي يعلنها للجميع.

وإذا كان إرهابي نيوزيلندا يستحضر تاريخ الصراع الغربي مع المسلمين، فإن ذلك لا يعني أكثر من أنه متعصب عنصري لتاريخه في أبعاده القومية والدينية. ولو أنه إذ قام بهذا الفعل الإرهابي استحضر نصوصا من الكتاب المقدس ومن وصايا القديسين والقرارات الكنسية ليؤكد بها صوابية فعله (كما يفعل القاعدي والداعشي مع النصوص الاعتبارية في الإسلام في اللحظة التي يرتكب فيه جرائمه)؛ لكان يصح وصفه ما يقوم به بـ”الإرهاب المسيحي”. أما وأنه لم يستحضر سوى تاريخ صراعي بعيد، متجاهلا النصوص الدينية المؤسسة، فهو مجرد إرهاب عنصري يجب أن يكافح ويحارب في هذا السياق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى