على قبوركم… رواية واحدة بنهايتين

النشرة الدولية –

ليس من الصواب تحديد سبب نجاح الأعمال الأدبية بناء على عامل واحد، بل هناك عدة عوامل ترفدُ خصوصية المنجز، وتميزه من اللغة إلى الصياغة والموضوع، ومن ثمَّ تنظيم المادة، ولعلَّ الأخيرَ هو العنصر الأساسي في ظهور المضمون بصورة جديدة، والحالُ هذه فإنَّ سبك خيوط المواد في إطار العمل الإبداعي يحتمُ وجود رؤية وبرنامج واضحين، وإلا فإنَّ كل ما يُقدَّمُ عبارة عن فوضى وتراكمات لا تجمعها السياقات ولا الخطوط التي بدونها يكون الخطاب مهلهلاً غير مُتماسكٍ. ومن الواضح أنَّ الرواية أكثر من أي جنس أدبي آخر تدعو إلى معرفة أدواتها والدراية بتقنياتها، إذ تمكنَ عدد من المبدعين توظيف التقنيات السردية بما يخدمُ مشروعهم الروائي، بحيث أنَّ هيكلية النص تعضدُ مكوناته الأُخرى، وهذا العنصر هو ما تستمدُ منه رواية “على قبوركم” للفرنسي بوريس فيان الصادرة أخيرا من مسيكلياني بترجمة وليد أحمد الفرشيشي فرادتها.

يبرعُ الكاتبُ بوريس فيان في استثمار قصة غائبة لبناء أخرى جديدة أو ما يوازيها. إذ يتابعُ المُتلقي سرداً أفقياً على لسان الراوي “أندرسون” وما يتخللُ هذا الخطَ من الإشارات التي تحيلُ إلى ما وقع قبل إنطلاقة الحركة السردية مع وصول “لي أندرسون” إلى بوكتن، ويحلُ هناك مكان مدير متجر الكتب هامنسون الذي يريدُ التفرغ لتأليف الروايات.

وما يذكرهُ الراوي المُتَضَمِن من البداية يقومُ عليه بناء العمل بأكمله بالطبع أنَّ فهم ذلك الأمر يتضحُ مع مضي السرد ورصد يوميات القادمُ إلى المدينة، وهو لم يحملْ معه شيئا سوى دولار واحد ومسدس لمن يصفه بالصبي المنسحب ظاهرياً من أطر الأحداث، غير أنَّ مقتله على يد آل موران هو المحرك الأساسي لحلقات السرد وتعقدُ عليه وحدات الرواية، لذا تتواردُ الإشاراتُ إلى هذا الحادث المُحفز على الفعل الانتقامي.

وما يهمُ القارئ هو فهم ملابسات الظروف التي راح فيها الصبي ضحية. وهذا ما يكشفهُ عندما يحكي “لي أندرسون” عن أصوله الزنجية وما يعنيه ذلك في مجتمع مُتخم بظاهرة التمييز العُنصري.

بدلاً من مكر التاريخ الذي قال به الفيلسوف الألماني “هيغل” ترى في طوايا هذه الرواية حيلة القدر، حيثُ يختفي أثر الأصول الزنجية على تقاسيم وجه “لي أندرسون”، وهذا يُمكنهُ من الاندساس إلى مجتمعِ البيض. إذ يعتبرُ توم أنَّ غياب العلامة الدالة على بشرة أخيه الصغير يوفر عنه غبن الممارسات العنصرية يُذكر أنَّ الحوار الذي يدور بين “لي أندرسون” وابنة الرجل الأرستوقراطي السيد “آسكيث”، يوحي وجود نزعة عنصرية دفينة لدى هؤلاء البيض. كما يلمحُ “لي أندرسون” في حديثه مع “لو آسكيث” إلى مقتل أخيه عندما تسأله الأخيرة عن أسرته.

أكثر من ذلك، فإنَّ (لي) يتوجسُ من كلام أصدقائه عن بنيته الجسمانية، إذ يتأمل جسده أمام المرآة بعدما يقولُ له ديكستر إنَّ لديه كتفين مائلتين مثل ملاكم أسود، غير أنه يجاهر أحيانا بإطراء الزنوج واستغلال الأوروبيين لما أنتجه السودُ، خصوصا على المستوى الفني، إذ يبدوُ (لي أندرسون) في نقاشه مع (لو) مدافعا عن بني جلدته بقوة، وهو أمر يورثُ الشَك لدي أخت عشيقته. فكانت جين آسكيث فريسة سهلة بالنسبة لـ (لي أندرسون)، إذ يلتحم بجسدها وهي ثملة على مرأى صديقتهما المشتركة (جودي) في مشهد موغل بالفحش والإباحية. ومن ثمَّ يبلغها بأنَّه يفضل أختها ويرغبُ بإقامة التواصل الجسدي مع (لو).

وكلما تصاعدت وتيرة الأحداث غابت الشخصيات التي تتواتر أسماؤها في الصفحات الأولى تاركةً المجال بأوسعه لشخصية البطل وأختين، ومما يزخمُ السرد أكثر هو ما يعرفه (لي أندرسون) بأنَّ جين حامل به، وتطالبه بإعلان زواجهما.

إلى هنا يبدأُ شوط آخر من اللعبة بين (لي) والاثنتين ويخبرُ لو بما تريده أختها. إذ يستدرج الأخيرة أيضاً إلى شباكه دون أن يؤثر ذلك على إيقاع حياته ولا ينفصلُ عن عصابته المكونة من جودي، وديك، وجيكي. ويمولُهم بالمجلات الإباحية. تتوالي الأحداث إلى أن يقتنع (أندرسون) بالذهاب إلى المكان المقفر الذي اختارته جين. واللافت اعترافه بأنَّه قد راودته فكرة التخلي عن مشروعه قبل القيام بتنفيذه، لكن ما يدفعه وراء هذه الخطة الجهنمية هو مقتل الصبي وأخيه توم، وحرق بيت العائلة ومقته لصنف من السود الذين تنكروا لدمائهم وانضمامهم لمعسكر البيض.

أخيرا يتحول (أندرسون) من دون جوان إلى القاتل، ومما يُضاعف من بشاعة جريمته هو إيهام (لو) بأنه يحتاجُ إلى رفقتها في السفر نحو مكان إقامة (جين)، مشيراً إلى أن في الطريق يوضح سبب وجودها بجانبه. قبل الرحلة يشتري الرصاص والفأس والمجرفة، ويطوى المسافة التي تفصله عن بريكسفيل. تستقرُ لو إلى جانب قاتلها في سيارة (باش)، ويستعيدُ (أندرسون) لحظات أمضاها مع (جين) والأوضاع التي عاشها في حالة حميمية سارداً لشقيقتها التفاصيل، معبراً عن رغبته الشديدة لممارسة تلك الفعلة معها، وعندما تنزل من السيارة ذاهبة نحو الأجمة يلحقها أندرسون، في هذا الأثناء يتلقى رصاصة تطلقها لو، غير أن أندرسون يتمكن منها ويعصبها بالحبل، ويصفعها ويمعنُ في التنكيل بها، سائلاً إياها عن سبب محاولة قتله، وتفاجئه بأنَّ (ديكستر) أخبرها بأصله الزنجي. وهو بدوره يذكر ما يعانيه من ألم ممض بعد مقتل أخيه على يد البيض. هنا يجمع المشهدُ أقصى الإجرام والسادية في أقسى صورها مع الجنس، إذ يشربُ أندرسون من دم ضحيته وهو يغتضبها، مستمتعاً بصراختها. وينزفُ جرح أندرسون دما، وبالتالي يفقد القوة، مما يثير الخوف لدى جين عندما يصل إليها، لكن يؤكد أنه خدش بسيط، ولا يمضي كثير من الوقت قبل القيام بإكمال مشروعه، إذ يكشفُ عن هويته الزنجية لـ (جين) ويقتلها بمسدس (لو)، ويتوغل في السادية بممارسة الجنس مع الجثة، ويتواصلُ مسلسلُ القتل ويحاصر مخبأ (لي) ويُقْتلُ بعدما تطارده الشرطةُ، ويشنقه أهالي القرية ميتاً.

يشارُ إلى أنَّ ما يفرقُ هذا العمل عن النمط السائد من الروايات التي تشتغلُ على الثيمة نفسها هو الاسترسال في المشاهد الصادمة وما تحمله عتبة العنوان من دلالات صافعة. إذ يمزجُ السردُ بين الإجرام والعربدة والاستلذاذ بالقاصرات والتوحش في رغبة الانتقام، ولا يستدرر بطل بوريس فيان عطف البيض مثل الشخصية الأساسية في رواية (كوخ عم توم)، إنما يردُ العنف بمزيد من العنف.

وما يجبُ الإشارة إليه هو تصميم الرواية وقصة الظل التي يلمسُ المتلقي خيوطها في الإطار العام للعمل، وتنتهي بمقتل الصبي، لأنه أقام علاقة حب مع فتاة من عنصر البيض، هذا إضافة إلى متابعة 3 أشهر من حياة (لي أندرسون) المشبعة بحس الانتقام والتماهي مع الجلاد. وما يصعدُ من منسوب التشويق والإثارة هو تماسك تركيبة الرواية بفعل إشارات ذكية، لاسيما إيماءة أندرسون عندما يحل بالمدينة إلى وجود مسدس بحيازته، وربط ذلك بشرائه للرصاص في نهاية الرواية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى