قراءة في رواية «أَدْرَكَهَا النّسيانُ» *د. أورانك الأعظمي

النشرة الدولية –

رواية « أدركها النّسيان» للروائية الأردنية، د. سناء الشعلان تدور حول امرأة ستينيّة اسمها «بهاء» مصابة بمرض السّرطان في دماغها، وقد استفحل إلى درجة أنّه قد أصابها بحالة مرضيّة نادرة تجعلها تخسر ذاكرتها جزءاً فجزءاً لحظة تلو الأخرى، حتى كادت لا تتذكّر من تكون بالضّبط، كما أصابها بجملة من الإعاقات الجسديّة، على رأسها حالة شبه شلل كامل في أطرافها ووظائف جسدها.

وفي هذه المرحلة الكئيبة من حياتها وعجزها وشيخوختها، تلتقي بالصّدفة البحت بحبيبها «الضّحّاك» بعد نصف قرن من الغياب بعد أن أصبح عمره في نهاية السّتين، عند اللّقاء تكون مريضّة عاجزة حزينة ووحيدة وفقيرة ، وتطلب الاستشفاء في منتجع صحيّ في غابة اسكندنافيّة برفقة صديقتها المخلصة لها «هدى»، بعد أن بدأتْ تتيه في عوالم النّسيان، وفقدت القدرة على النّطق والحركة خلا القليل الباقي منهما، كما فقدت المعين والمال والملجأ.

لكن المفاجأة أنّها تتجاوز مرضها المسيطر عليها، وتذهل أطباءها عندما تتذكّر حبيبها «الضّحّاك» بمجرّد رؤيتها له، وتهتف بفرح: «أنتَ الضّحّاك سليم.  أنا أعرفكَ.  أنا أعشقكَ»، عندها يقرّر «الضّحّاك» أن يعود بها إلى بيته وحياته حيث يعيش حياة سعيدة ومرفّهة وراقية في مدينة من إحدى المدن الاسكندنافيّة.

ولا يجد بطل الرّواية مع حبيبته المريضة سوى بضعة أشياء متواضعة، من جملتها مخطوطة رواية كتبتها له، ومن هنا تبدأ الأحداث والأزمات في التّداخل والتأزّم ليحدث الكشف الكامل في الرّواية، ونعرف أحداث حياة البطلين عبر سبعين عاماً من حياتهما؛  فندرك أنّ بطل الرّواية «الضّحّاك» قد أصبح أستاذاً جامعيّاً شهيراً متخصّصاً في الأدب المقارن والتّراث الشّعبيّ،  إلى جانب أنّه روائيّ عالميّ له سيط مرموق، وإنْ كانت حياته الشّخصيّة غير سعيدة؛  إذ إنّه قد تزوّج ثلاثة نساء حمراوات على أمل أن يجد الحبّ والسّعادة المنشودة مع إحداهنّ، لكن كلّ واحدة منهنّ تخلّتْ عنه، وطلّقته، وأخذتْ جزءاً كبيراً من ثروته دون أن يحظى بأيّ طفل من أيّ من هذه الزّيجات الثّلاث.

وهذه الحياة السّعيدة إلى حدّ كبير على الرّغم من إخفاقات الزّواج جعلت « الضّحّاك» ينسى معاناة طفولته وصباه في وطنه الأم حيث كان يعيش في الميتم إلى جانب «بهاء» حتى طُرد من هناك، وتشرّد في الشّوارع، وتعرّض للاعتقال، وكاد يفقد بصر عينيه بسبب التّعذيب، لولا تدخّل ابن عمّ أبيه الذي أنقذه من ذلك كلّه، وتبنّاه، وأخذه معه إلى المهجر حيث يعيش مع زوجته الإغريقيّة الطّيبة وابنه الوحيد، ليعيش هناك حياة كريمة سعيدة، تسمح له بأن ينال أقساطاً وافرة من السّعادة والحريّة والتعلّم والثّراء والشّهرة والأمن والكرامة الإنسانيّة، ولكنّه ظلّ يحلم بأن يتلقي بحبّه الأوّل والأخير، وهي حبيبته « بهاء» التي حُرم منها قسراً عندما فرّق الميتم بينهما.

في المقابل تكشف الرّواية عن أنّ «بهاء» عاشتْ حياة كئيبة، وتعذّبت، وتاهتْ في دروب الحياة، إلى أن اضطرتْ إلى أن تبيع جسدها وقلمها كي تبقى على قيد الحياة، وفي نهاية المطاف أصابها سرطان الثّديين ثم سرطان الرّحم ثم سرطان الدّماغ الذي قضى عليها قضاء مبرماً.

تدخل « بهاء» في غيبوبة لمدّة عامين بسبب سرطان الدّماغ بعد وصولها إلى بيت «الضّحّاك» بأيّام قليلة، ويقرّر الأطبّاء أنّها قد دخلتْ في مرحلة الموت السّريريّ، وأنّها لن تعود إلى الحياة أبداً،  لكن « الضّحّاك» يصمّم على أنّها سوف تستيقظ من سباتها إكراماً لحبّهما، ويلازمها في مرضها الطّويل، ويرفض بحزم أنّ تُفصل عنها أجهزة التّنفّس الاصطناعيّ والتّغذية، و يظلّ يقرأ لها من مخطوطتها الرّواية إلى أن ينتهي منها، ثم يحرقها في نار المدفأة كي لا تتذكّر حياتها السّابقة عندما تستيقظ، ويكتب لها حياة بديلة مفترضة يسجّلها في رواية مشتركة لهما باسم « أَدْرَكَهَا النّسيانُ» ، نزولاً عند حلمها بأن تكون لها رواية خاصّة بها تتحدّث فيها عن حكاية حبّهما منذ طفولتهما المعذّبة.

وفي نهاية الرّواية تكون المفاجأة الكبرى عندما تنتصر «بهاء» بحبّها لـ «الضّحّاك» على المرض وعلى الموت، وتستيقظ من سباتها الذي دام لعامين، وتتعافى من السّرطان بعد عدّة جلسات كيميائيّة، وتفاجئ الجميع بأنّها قد عادت إلى الحياة بعقل طفلة صغيرة لا ذاكرة عندها أو ماضٍ؛  إذ لا تتذكّر في الحياة أيّ شيء، سوى أنّ اسمها « بهاء»، وأنّ اسم حبيبها  هو «الضّحّاك»، وأنّها تعشقه.

فيقرّر بطل الرّواية أن يعيش معها تجربة الطّفولة من جديد، ويتخلّى عن حياته كاملة بما فيها من شهرة وعمل أكاديميّ وسفر وترحال وأعمال تطوعيّة وبحثيّة، ويتفرّغ لشيء واحد، وهو الحياة مع حبيبته الطّفلة التي تعيش بعقل طفلة، وجسد امرأة تكاد تبلغ السّبعين من عمرها، بعد أن يتزوجها، ويطلق معها روايتهما المشتركة «أَدْرَكَهَا النّسيانُ» التي تلاقى نجاحاً كبيراً، وتحظى باهتمام القرّاء، وتُترجم إلى عدّة لغات عالميّة.

وتنتهي الرّواية على مشهد رومانسيّ لطالما حلمت به «بهاء» بعد أن رأته في طفولتها في فيلم سينمائيّ  « في أفق بحريّ ما كان هناك ظلّان يركضان نحو الرّحب فرحين بالعشق الذي لا يموت، ولا أحد كان يعرف لهما اسماً أو ذكريات أو تاريخاً، والشّمس التي تغرق في أفق البحر الدّامي بها تحوّلهما إلى خيالين أسودين يلتحمان طويلاً في جسد قبلة عميقة».

والرّواية تتكوّن من أكثر من متن سرديّ متداخل، بل هي في حقيقة الحال تتشكّل من خمسة روايات تقع في متن رواية واحدة ؛  فالرّواية الأولى هي رواية «أَدْرَكَهَا النّسيانُ» التي تضع سناء شعلان اسمها على غلافها بوصفها مؤلّفتها، وتتكوّن من ثلاثين فصلاً تحمل على التّوالي اسم النّسيان من واحد إلى ثلاثين. وهذه الرّواية هي الوعاء الشّكليّ على امتداد الورق للسّرد الكامل الممتدّ منذ صفحة البداية حتى صفحة النّهاية، وهي تتقاطع داخليّاً مع الرّوايات الأربع الأخرى التي تنساب داخلها، وتتداخل معها، وتصبح جزءاً من لحمتها.

ومن ثم هناك الرّواية الثّانية في متن هذه الرّواية وهي رواية «أَدْرَكَهَا النّسيانُ» التي كتبها « الضّحّاك» لتكون حياة جديدة لحبيبته الغارقة في غيبوبة طويلة  «لقد قرأ كلّ ما كتبته «بهاء» من ذكريات عن حياتها البائسة في روايتها، ثم مزّق كلّ ما كتبتْ، واختطّ لها ذكريات جديدة ذات بهاء يشبه بهاء جمالها الأحمر في روايتهما «أَدْرَكَهَا النّسيانُ»، ولكنّها لم تعبأ بأقدارها الجديدة التي حاكها لها في روايتهما الأسطورة، وهجرتْ هذا العالم دون عودة».

وهذه الرّواية لم نعرف ما هي تفاصيلها أو أحداثها، لكنّنا نعرف أنّ «الضّحّاك» كتبتها على نيّة أن يجعل منها تاريخاً جديداً لحبيبته «بهاء» : « سأكتبُ لكِ أجمل الحكايات، وسأسمّي روايتنا هذه «أَدْرَكَهَا النّسيانُ»، وسأكتب اسمي واسمكِ عليها، ولذلك لن أكتبَ فيها إلاّ ما تشتهين أن يكون في حياتكِ، وسوف أدفن في صدري أيّ حقيقة لم تريدي أن تبوحي بها إلاّ لي. سأقرأ بتقديس سيرة خطاياكِ وأخطائكِ وزلّاتكِ، وسوف أدفنها في صدري، ولن تزيدكِ زلّاتكِ في عيني إلاّ عظمة وقدسيّة ونقاء، سأكتب لكِ بدلاً عنها أجمل تفاصيل الفضيلة والنّبل والسّمو، سوف تكون روايتنا لنا ولحبّنا، أمّا العابرون فينا، فسوف أنفيهم من روايتنا، لن يكون لنا من التّذّكر سوف ما نشتهي.  بعد الآن لن تكوني مجرّد امرأة أَدْرَكَهَا النّسيانُ، بل سوف أتوّجكَ ملكة على قلبي وعلى جبين الخلود على الرّغم من أنف المرض والنّسيان والألم».

وقد ظلّ «الضّحّاك» ينتظر أن تستيقظ حبيبته «بهاء» من سباتها، لتجد الرّواية التي كتبها لأجلها في انتظارها، « بعد أن بذل جهده ليل نهار في كتابتها لتجد ليغيّر أقدارها بها؛  إذ كتب فيها حياة جديدة لتنسى تماماً أيّ ذكريات مؤلمة عاشتها في الماضي.

وكي يجبرها على الاستيقاظ فقد قام بطبع هذه الرّواية، وملأ حجرتها بنسخ منها، وظلّ ينتظر خروجها من غيبوبتها كي يوقعا الرّواية في حفلة توقيع خاصّة بهما «صديقاه الاثنان كانا يقفان إلى يمناه يتأملان وجهه الحزين الكسيف الموزّع النّظرات بين وجه «بهاء» وأكوام نسخ رواية «أَدْرَكَهَا النّسيانُ» التي نشرها في كلّ مكان في حجرتها في انتظار أن تستيقظ، وتحتفل معه بصدور طبعتها الأولى»

وعلى الرّغم من غياب نصّ هذه الرّواية عن سرديّات الأحداث، إلاّ أنّها تتصدّر الأحداث السّعيدة في نهاية الرّواية الورقيّة، ويتمّ نشرها، وتلاقي نجاحاً منقطع النّظير، وتُترجم إلى عدّة لغات دون أن نعرف ما هو مكتوب فيها على وجد الدّقّة « رواية أَدْرَكَهَا النّسيانُ طبّقت الآفاق شهرة وحضوراً، وحقّقت مبيعات هائلة أغرت النّاشر بترجمتها إلى أكثر من لغة، وأكثر من جهة إعلاميّة وأكاديميّة وثقافيّة عقدتْ جلسات حواريّة ونقاشيّة حولها، وتلقّت أكثر من عرضّ مغرٍ لتحويلها إلى أفلام سينمائيّة. لقد بات العالم كلّه يعرف قصّة العاشقين : «الضّحّاك « و»بهاء» اللّذين انتصرا على الموت والنّسيان والفراق بقوّة حبّهما الخالد»

أمّا الرّواية الثّالثة في متن الرّواية الأم ، فهي رواية المخطوطة التي كتبتها «بهاء» بخطّ يدها لتكون رسالة اعتراف تضعها بين يدي حبيبها « الضّحّاك»، وقد اصطحبتها معها في رحلة علاجها من السّرطان على الرّغم من النّسيان الذي هاجمها، وهي رواية مخطوطة عملاقة سيريّة، وهي فعليّاً من تشكّل جسد الرّواية، وتقدّم أحداثها، وتفصح عن حقائقها وأزماتها، وتصحب القارئ في رحلة زمنيّة تمتد لسبعين عاماً في حياة بطلي الرّواية، وفي متنها هناك الحقائق والاعترافات والخلجات والآلام، وقد انتهتْ هذه الرّواية الدّاخليّة المخطوطة بمجرّد أن انتهتْ بطلتها السّاردة الدّاخليّة  التي اسمها «العاشقة» من رواية أحداث حياة  «بهاء»، عندها قام « الضّحّاك» بإعدام الرّواية بإحراقها  في مدفأة بيته « عندما تبخّرت بعض دموعه من أوار النّار المتعالي في المدفأة، أطعمها دفعة واحدة الرّواية المخطوطة الخاصّة بجميلته الحمراء النّائمة، ووقف يستمتع بتشفٍ وهو يرقب ألسنة النّار تأكل المخطوطة بشهوة ملتهبة، لتحوّلها إلى جمرة ثم إلى رماد في دقائق»

وبذلك أعدم «الضّحّاك» الرّواية المخطوطة التي كتبتها «بهاء» بخط يدها كي يدفن الماضي فيها، ويلعب لعبة النّسيان الاختياريّ؛  فهو أيضاً يريد أن ينسى ما حدث مع « بهاء»، ويبغي أن لا تتذكره بأيّ شكل من الأشكال « هذه المخطوطة هي مخطّط  لرواية أنتِ من كتبها، وأنتِ من رسم شخصيّاتها، كما أنتِ من رسم شخصّية بطلتها التي أسميتها «العاشقة»، هي رواية جميلة دون شكّ،  لكن لا علاقة لكِ بها، فحياتكِ كانتْ مختلفة تماماً، ولعلّها كانت نقيضاً لحياة البطلة التّعسة الحزينة التي حلّ بها مرض نادر أصابها بالنّسيان».

وفي نهاية الرّواية/ في النّسيان الثّلاثين هناك عدد كبير من النّهايات المحتملة لها ، ومنها نهاية تهدم ما حدث في الفصول التي سبقتها، إذ تفترض أنّ الرّواية المخطوطة الخاصّة بـ «بهاء» لم تُحرق، وأنّ هناك اتّجاه آخر في الأحداث « في الرّواية المخطوطة- الملعونة التي لم تفنَ في حادثة إحراق « الضّحّاك» لها « لم تجد « بهاء» الدّرب إلى « الضّحّاك» ، ولذلك اخترعتْ « ضحّاكاً « جديداً من بناء خيالها الحالم، وظلّت تهذي باسمه وبقصصها الكثيرة معه حتى غدت مجرّد اسماً مكتوباً في لائحة الموتى في مشرحة كليّة الطّبّ في جامعة العاصمة؛  لأنّ لا أحد أبدى أيّ رغبة في استلام جثّتها من المستشفى، ودفنها على حسابه الخاصّ في أيّ بقعة من بقاع الأرض جميعها»

وهذه النّهاية المفجعة المفترضة تشكّل المتن الرّوائيّ الرّابع للرّوايات المتداخلة في هذه الرّواية، وهي رواية مفترضة تقول بأنّ المخطوطة الملعونة لم تحترق، وهي بذلك تحليلنا إلى رواية خامسة مفترضة، وهي رواية في فقرة واحدة فقط، وتفترض أنّ الرّواية بأحداثها كاملة لم تحدث أساساً، وأنّ « بهاء» و « الضّحّاك» تمّ قتلهما في الميتم في طفولتهما، ودُفنا في قبوه، ولم يكبرا، وبالتّالي لم يعيشا متن الرّواية الأم التي تحمل أحداث حكايتهما « في رواية مخيفة يتناقلها أطفال الميتم عن الشّبحين اللّذين يعيشان في القبو يذكرون أنّ هناك طفلة حمراء ملعونة وطفلاً عاشقاً لها مدفونان في تراب القبو بعد أن حبستهما مديرة الميتم في القبو إلى أنْ ماتا جوعاً»

وهناك المتن الرّوائيّ الخامس المفترض داخل الرّواية، وهو متن يمتدّ في فقرة واحدة، وهو متن مباغت ومفاجئ وفيه كسر كامل للتوّقعات؛  إذ يفترض هذا المتن أنّ رواية « أَدْرَكَهَا النّسيانُ» هي رواية كتبتها  السّكرتيرة «باربرا» عن عاشقين مشرقيين « هذا ما كتبته «باربرا» في روايتها الشّهيرة الأكثر مبيعاً في بلاد الثّلج والصّقيع التي تحمل عنوان» أَدْرَكَهُمَا النّسيانُ».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى