أرض الحلم* لمياء المقدم

النشرة الدولية –

تشبه الأحلام حقيقة نعرفها أو ربما هي الحقيقة الوحيدة التي نعرفها حق المعرفة: ما نعيشه كل يوم هو فكرتنا عن أنفسنا

المخيلة قادرة على تحويل الحلم إلى عالم رحب

ربما لا يوجد ما هو أشد إيلاما من إجهاض حلم داخلك، وتحديدا لهؤلاء الحالمين الذين يعيشون على الحلم أكثر مما يعيشون على أرض الواقع.

يبدأ الحلم صغيرا، لكن المخيلة قادرة على تحويله إلى عالم رحب، وفضاء للحل والترحال، وللنوم واليقظة.

ينام البعض داخل أحلامهم ويصحون، يكبرون ويهرمون داخل حياة تحولت ذات حلم إلى حلم ولم تعد إلى نفسها أبدا.

يحدث أيضا أن ننسى أننا دخلنا أرض الحلم من أجل مهمة محددة لكننا نسيناها ونسينا أنفسنا. نسينا طريق العودة، وملامح الذين تركناهم خلفنا، الأيام والتواريخ. يختلط الأمر حتى أننا نعتقد أننا في أرض الواقع الكبرى.

ندخل أرض الأحلام هربا من الواقع أو هربا إليه. الواقع الذي أصبح حلما، الحلم الذي أصبح واقعا… ونحن في منتصف كل شيء، نقفز بين جدار وجدار ونصطدم بأنفسنا كخفافيش ليلية.

للواقع سطوته، لكنها سطوة الجاني على نفسه، كلما اشتدت قسوته لأن الحلم أكثر، “كلما ضاقت الأرض، اتسعت السماء”.

مع هذا تشبه الأحلام حقيقة نعرفها أو ربما هي الحقيقة الوحيدة التي نعرفها حق المعرفة: ما نعيشه كل يوم هو فكرتنا عن أنفسنا.

ويوم نفكر في الصحو، نكون قد نسينا من نكون حقا، وتكون ملامحنا قد تغيرت بحيث لا نعود نتعرف عليها إذا صادفتنا في مكان ما. الأمر شبيه بكرسي يحلم أن يعود إلى الشجرة التي كانها معتقدا أنها حقيقته وكينونته الأولى، لكن ما هو الواقع في النهاية؟ هل هو ذلك الذي نتركه خلفنا مهملا وبعيدا وننسحب منه بلا عودة، ذلك الوعي الذي لم نمتلكه.

يحلم الحالم بالصحو، الصحو الذي هو وجه الحلم الآخر، ينظر في نفسه كمن يحثها على التذكر، على السقوط من علو الفكرة، لكن الأفكار عمياء كما نعرف، وفكرتنا عن أنفسنا لا ترانا. لم ترنا أبدا.

الحياة هي ما نتخيله، ونحن لسنا سوى ذلك الذي نجهله عن أنفسنا.

يحلم الجدار أنه رجل، فيتحول إلى رجل، تحلم الحجارة أنها امرأة فتتحول إلى امرأة، يحلم أحدهم أنك ماكينة سحب آلي في جدار أحد المباني القديمة، فتتحول إلى ماكينة سحب آلي في جدار أحد المباني القديمة.

يغلب الحلم صاحبه دائما، لأنه جاهل وأعمى. الجهل قوة جبارة لا تقل أهمية عن المعرفة، وقد تنشب معركة مصيرية بين الحالم وحلمه، يريد فيها الأول أن يكون سيد نفسه، ولكن الأحلام أشد قسوة من الواقع، وقد يهرب الحلم من صاحبه تماما كما يهرب قط من البيت.

الأحلام قاسية أيضا، مربكة ومستنزفة، كأكياس الحجارة على الظهر، كالمرأة المتطلبة، من يضع كيسه على الأرض يرتاح ويتنفس.

يعيش الحلم على دم صاحبه، وأعصابه، ويحوله إلى واقع مر. يفعل ذلك لأن الأحلام تطمح بدورها إلى أن تتحول إلى واقع، غاية ما يمكن أن تدركه، ولذلك هي تعافر، وتقاتل وتحفر بأظافرها قلب حاملها.

إذا كان الواقع مدهشا أحيانا، فلأنه كان حلما في حياة أخرى.

ندخل أرض الأحلام بأقدامنا، وفي اعتقادنا أننا نجونا، نوغل في الحلم وكل خطوة نقطعها تأكل منا، كأننا نوغل في ساعة ضوئية، الوصول فيها يعادل الامّحاء.

ومرات أسأل نفسي: من هؤلاء الذين يتجولون مثلي في الأرض بعيون فارغة وقلوب مدلوقة إلى بطونهم؟! لا يكلمون أحدا ولا يلتفتون لصوت أو نداء؟ من هؤلاء حقا؟

في أرض الأحلام أحلام كثيرة تمشي على قدمين، وتنبت لها في رؤوسها أعين ضخمة، تعتقد أنها بشر، وبعضها يذهب إلى أبعد من ذلك، ويرى نفسه أما أو أبا، زوجا أو زوجة، أخا أو أختا.

في أرض الأحلام، يدور البشر حول أنفسهم، وتظل هي ثابتة، يضيئون وينطفئون، بينما هي بلون واحد لا يتغير، كأنها الشمس نفسها.

أرى كمن يقع بين النوم واليقظة شبحا يقترب ويبتعد، أتبينه ولا أتبينه، أعرفه ولا أعرفه، أرى ذلك المجهول الغامض، يأتي من أمامي، وذلك الذي لم أكنه يوما، يفتح أحضانه لي كأنني ماء يعود إلى أصله.

تقول القاعدة الفيزيائية: يطفئ الماء النار مهما علت درجة حرارته.

العرب اللندنية

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى