كتاب “البحر في الذاكرة الإماراتية” يستخرج ما تختزنه الذاكرة الإماراتية من صور فينومينولو قائمة بذاتها في الذهنية الفردية.

النشرة الدولية –

في هذه الدراسة “البحر في الذاكرة الإماراتية” للروائي الإماراتي علي أبوالريش يقترب من البحر، وما تختزنه الذاكرة الإماراتية من صور فينومينولو قائمة بذاتها في الذهنية الفردية، كما هي راسخة في اللاشعور الجمعي لدى المجتمع، وما وفرته من اختزالات للموت، كما وسعت بها إدراك الحياة.

يرى أبوالريش أن البحر ليس لسانا مائيا مجاورا لليابسة فحسب بل هو وجود حياة، وملاذ وجود، فضلا عن أنه مصدر جلال بما يكتنفه من سطوة على الوجدان الإماراتي، فالبحر الذي كان مخزن رزق، وتربة نبات إحيائي، كان أيضا الهوة السحيقة التي ابتلعت أرواحا، حيث السفر البعيد في أعماق البحر، كان محفوفا بمخاطره، كما كان الغوص الذي يحمل سلة الغوص إلى الأعماق في نزهة بحرية، بل في صلب المباغتة، وفي لب المداهمة المرعبة، كانت تغشاه الرعشة عند كل غطسة، وقلبه يخفق بلوعة الحرمان من عدم العودة إلى الحبيبة، كان الغواص بين فكي الغطرسة، تتناوشه لعنة البحر وزجر النوخذا، ولكن كان حب الحياة والعيش الكريم أقوى من كل أضراس الفتك، ولأن البحر ليس وردة يانعة عند بستان الوعي، فكان مزموم الشفاه على شروطه المسبقة، بأن يعطي في مقابل أن يأخذ، الأمر الذي يجعل من المواجهة تحديا مشروطا أيضا من جهة النوخذا، فإن يكن مقابل القبول بالغواص كواحد من الركب، كان لا بد وأن يتمتع هذا المشروط عليه بقوة البأس، ونقاء الشكيمة، ورصانة الوعي بأهمية أن يكون بقيم الأشداء الصارمين، وإلا فإن المصير هو النهاية المؤلمة.

وعد أبدي يرسم ملامح الوجود بريشة الأصابع الدامغة في أحشاء المحارات التي كانت في حضور الغواص تبرز حقلا كونياً يمزج بين الماء والعرق، ويسرج خيول الأشواق في الأحشاء

من هنا انطلق أبوالريش في مقدمة كتابه الصادر عن مشروع “كلمة” والذي وقعه خلال معرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورته الـ 29 من فكرة الموت والعودة، حيث قال إن فكرة الموت والعودة بعده اختلفت لدى الحضارات القديمة على مدى التاريخ الإنساني من التناسخ عند الهندوسية والبوذية، والاعتراف بالموت كحتمية فظة عند الرواقيين والأبيقوريين والماديين واللاأدريين، ثم أديان الخلاص اليهودية والمسيحية والإسلام. ولكن في جميع الأحوال نحن نعيش تجربة الموت نفسها، والموت هو موضوع قلق حتى لدى أولئك الذين يؤمنون بالانبعاث والحياة بعد الموت. هذه هي المتلازمة الأولى لدى البشر في حضورها الأزلي مقابل الحياة، فلولا وجود الحياة لما فكر الإنسان بالموت، كما هو الحال لولا وجود الأسود لما عرف الإنسان شيئا اسمه الأبيض، ولما فكر في الجميل لولا وجود القبيح، فهي التناقضات التي تجعل أهمية للأشياء، كما تستبقيها في الوعي كقطبي المغناطيس، فعلى الرغم من خوف الإنسان من الموت ونبذه القبيح، فإن وجود الموت هو الذي جعل من الحياة قطبا آخر نقيض الفناء، يسعى إليه الإنسان ويقاوم من أجل أن يكون حيا.

في وجود القبيح يصبح الجميل معنى فسيولوجيا وسيكولوجيا. وعلى كل حال فإن رهبة الموت تجعل منه في الوعي شيئا من المثول الواقعي الذي يمنح شيئا من التسامي تجاه الشيء المبغوض والذي هو الموت، كما يقول أوشو: إن الموت هو عودة إلى المصدر، كما يغرق الإنسان في النوم. الموت نوع عظيم واستراحة كبيرة بعد حياة طويلة، إنه يجددك ويجعلك نشيطا، ويبعثك من جديد.

ويشير إلى أن البحر في الوجدان الإماراتي هو نسق حياة في مضاد الموت، فحيث كان البحر يحمل في أحشائه الدر، فكان أيضا يخبئ في ثنايا موجه خطر الفناء، عندما تعبس الريح ويكشر الموج عن أنيابه، وتسقط الغيمة كسفها، ويبدو الفراغ المدلهم لحظة انفجار بحري مراوغ، لا يبدو عليه التسامح. هكذا كان الوعي الأنوي يسفر عن مفهومه اللاشعوري، وهكذا يرسم الأنا المؤدلج اجتماعيا صورة البحر في الذهنية، ويلونها بطبشورة سوداء داكنة، تتوغل في الوجدان مثل عشبة أفيونية سامة مخدرة يتعاطاها الإنسان وهو ذاهب إلى الوجود.

ويلفت أبوالريش إلى أن الإنسان كي يعلّي من شأنه ويتسامى فوق الموت كان لا بد من استحضار الحيلة الدفاعية كما أوردها فرويد في دراسته للأحلام، فالإنسان الذي وجد نفسه ضئيلا أمام الموت، كان لا بد أن يخلد إلى الشعور بالأنقة، ويتماهى مع خالق الموت والحياة، فيقول فلاسفة الشرق المدنفين بالأبدية “إن الله خلقك أنت وأنت خلقت العالم”، في هذه المتتالية الزمنية في الخلق يضع الإنسان لنفسه مقعدا عملاقا على الأرض، كما هو عرش الله في السماء، وبذلك أوجد الإنسان الحل، وإن يكن حلا نفسيا على أقل تقدير ليواجه معضلته مع الوجود، وليكرس مبدأ الأبدية المتخيلة، ليمسك قميص الحياة ولو من دبر، فهو في هذه الحالة إستطاع أن يجلي عن كاهله كما هائلا من صدأ الخوف من الموت.

ولأن الحيل الدفاعية ما هي إلا وسائل لكف الضرر النفسي، فإن الخوف الموضوعي ظل يمارس سلطته العنيفة التي لا تقاوم، ومع حاجة الإنسان الماسة والمرتبطة في وجوده بهذه التجسيدات الموضوعية، فإن – أي إنسان – كان على موعد مع الخيال الذي كان المركب الواسع الذي حمل كل تهيؤات الإنسان وتصوراته حول ما يحيط به من جغرافية هائلة ومرعبة، فعندما ينظر الإنسان إلى الصحراء ويتأمل مكوناتها المهيبة ينتابه الشعور بالضآلة حيال ما يكتنف الصحراء من هالة فظيعة، فهي تضم الأشجار العملاقة، وبين أغصان هذه الصحراء تختبئ المخلوقات المتوحشة، فماذا كان بإمكان الإنسان الضئيل أن يفعل حتى يتوخى الحذر من الفناء، إنه بدا في صناعة أدوات الحماية التي توفر له سبل البقاء، ولكن أمام الكوارث الطبيعية الكبرى لم يصمد خيال الإنسان، بل خنع متلاشيا خلف تصوراته الوهمية، فاخترع الخرافة، فهي قناعة المغلوط، ولكنه الراسخ، وما الخرافة إلا حقيقة ناقصة، كما هي الحقيقة خرافة نصدقها.¬

ويوضح أبوالريش أنه في هذا المعنى بني الإنسان نسقه الفكري متحديا الصورة العملاقة للكون الواقفة أمامه في تحد واضح وصريح، فالإنسان وجد على الأرض وهو يشد الرحال إلى قائمة من الأفكار التي تتحد في داخله لتكون نسقا معرفيا واحدا عن الحياة، وهو أن الولادة في حد ذاتها لا تقتضي الحياة، بمعنى أن الإنسان بمجرد أن يولد لا يعني أنه اكتسب الحياة، ولكن الحياة هي مفهوم أوسع من مجرد الوجود، الأمر الذي دفع الإنسان إلى أن يدافع عن هذا الوجود، ولما وجد ما يعترض طريقه في الدفاع عن وجوده لم يكتف بالصمت، بل أشعل فتيل الخوف، والخوف لا يعني القبول بالأمر الواقع بل هو جزء من المقاومة ورفض الأمر الواقع، فبدت المواجهة متكافئة إلى حد ما، ولو بصورها المتخيلة؛ لأن الحياة كما صورها الوجوديون حفلة تنكرية، والإنسان تنكر في كثير من حالاته المعاصرة لواقعه الحياتي، فعندما عبد الإنسان الشمس، فهذا لا يعني أن الإنسان كان مؤمنا بأن للشمس علاقة في الخلق، ولكنه فعل ذلك برمزية إعتقادية، اختبأت تحت غشاء سميك هو إيمان هذا الإنسان بوجود قوة خفية وراء كل هذا الوجود العظيم.

تتوزع مادة الكتاب على ثمانية فصول، يتناول الفصل الأول جلال البحر وجمال الوردة، بينما يتعمق الفصلان الثاني والثالث في تعريف الخرافة والطقوس ووظيفتهما في اللاوعي الجمعي والضمير الكوني كمخزن للذاكرة، ويسلط الفصل الرابع الضوء على أسطورة “بابا درياه” في الإمارات وعلاقة وجدان البحر بوجد ووجود الإنسان، و”بابا درياه” خارج الوعي وحكايات الليل السوداء ولعبة الأنا، وسؤال “هل للبحر وجدان وهل للإنسان مشاعر مؤجلة؟”، والمراقبة كإحدى أعظم قدرات التحوّل، والحب عكس الخرافة.

بينما يتناول الفصلان الخامس والسادس الأنا كأب قاسٍ، وغموض الخرافة في تضاده مع وضوح الحقيقة، والإنسان ككائن وهمي والبحر في وعي الإنسان، والبحر الواسع في علاقته مع الأنا الضيقة، وتشاركية العالم في القصيدة، أما الفصل السابع فيقدّم الكاتب فيه قراءاتٍ في الشعر المرتبط بالبحر بعنوان “شعر البحر، بحر الشعر في الإمارات”، في استعراض شيّق لحضور البحر في النص الشعري وجنون التناول وجماليته، والحالة الشعرية في وعيها بالبحر، وإمبراطورية الحلم والخرافة، وصورة الحلم أو طقس الخرافة، وتجربة الواقع والحياة، واتساع الوعي داخل اسوار القصيدة، وطمع الخرافة، لينتقل الكاتب إلى الفصل الثامن الذي يختم به كتابه بقراءة الصحراء والبحر ومجاورتهما، فالصحراء بيتنا والبحر كوننا، طارحاً وصيته بتغيير الوعي لتأتي الحقيقة، وتذهب الخرافة، ومستكشفاً إشكاليات ادعاء الوعي.

زر الذهاب إلى الأعلى