مسرحية “كل الحق علي” تنقل خصوصية الحياة في مخيم شاتيلا

النشرة الدولية –

قدم استوديو كون في بيروت مؤخرا عملا مسرحيا بعنوان “كل الحق علي”، وهو من كتابة وإخراج ميرا صيداوي ومن تمثيل باسكال جلوف وعمر أحمد. وتأتي أهمية هذا العمل ليس لأنه يلقي الضوء على المكوّن الفلسطيني بصفته رمزا نضاليا، بل لأنه يلقي الضوء بكل بساطة على حياة شاب وشابة متزوجين داخل مخيم شاتيلا. وهي من المواضيع الحساسة والنادرة في العروض المسرحية التي بات يقدمها الفلسطينيون.

وتكاد تنعدم سرديات المخيم الفلسطيني عن الخشبة اللبنانية. فمنذ ما يقارب السنتين، قدّم المخرج الشاب عوض عوض، عرضا بعنوان “أيوبة” وهو ينقل يوميات ثلاث سيدات فلسطينيات من أجيال مختلفة يعشن في مخيمي الرشيدية والبداوي. آنذاك كانت ميرا صيداوي تلعب دور إحدى السيدات وكذلك كانت المخرجة والأستاذة الجامعية عليا الخالدي تلعب أحد الأدوار. أسس هذا العرض لنشوء فرقة مسرح المخيم، حيث اتفق كل من عوض وعليا وميرا على ضرورة العمل على مسرح “ينقل خصوصية الحكاية في المخيم ويعاود كتابتها وإخراجها” فكان “كل الحق علي” العرض الأول الذي تنتجه الفرقة.

لميرا صيداوي قناعة راسخة بضرورة بناء سردية المخيم وباتت تلك القناعة أكثر ترسخا لدى خوضها تجربة الأمومة. حيث ينقل العرض أمسية عسيرة بين علي وزوجته وطفلهما المولود حديثا. السينوعرافيا عبارة عن غرفة مكتظة بمكتب يجلس عليه علي وعدد من الصحف وكنبة ومقعد للطفل وفرشة وشباك معلق في الهواء. هذا الشباك، الأقرب إلى الجمهور بين عناصر السينوغرافيا، يطل على مخيم شاتيلا. في تلك الغرفة الضيّقة ستتفجر الضغوط التي يتعرض لها هذان الشابان وكأنها مفرقعاتٌ منزلية الصنع.

يختلط فضاء الأمومة وكل ما فيه من تقلبات مزاجية مع فضاء المخيم الذي لا نراه إلا من خلال صراخ الزوج علي كل ما تزداد حدة التوتر بين الزوجين، حينها يصب الزوج أبويوناس جام غضبه على الطفل الذي في الشارع أو على صاحب الموتوسيكل الذي يمرّ مسرعا في منتصف الليل محدثا ضجة مهولة.. هذا الشباك الذي يشكل فسحة مشرعة أمام فضاء لا محدود، يتحول إلى بؤرة ضغط لا مرئية يمارسها المكان على الفرد ويمارسها أيضا الفرد على المكان.

ليس هنالك من مشكلة محددة بين هذين الزوجين إلا الملل الناتج عن تراكم ظروف العيش وعدم الرضا عن الوضع الحالي. الزوجة الآتية من مخيم اليرموك، والتي وضعت مولودها حديثا تعاني من اضطرابات ما بعد الولادة، مما يزيد من شعورها بعدم الأمان، في حين ينشغل الزوج بمتابعة الأخبار اليومية وبالنظر إلى الساعة وكأنه ينتظر مرور الوقت كي يبدأ دوام العمل في لعبة تكرار لا تنتهي. هو اهتمام وشعور بالأمان لن تنالهما الزوجة من زوجها ذاك المساء، لأن الأخير يعيش أيضا حالة قلق. هكذا ستتوالى النقاشات الحادة بين علي وزوجته، وكأنها قنبلة موقوتة أعدتها ميرا صيداوي بنص مرن وبحوار ديناميكي لا يخلو من المواقف الطريفة التي يحاذيها التوتر ثم الهدوء دون أن يصل العرض إلى نهاية حتمية.

ملفتٌ في هذا العرض، قدرة النص على نقل التفاصيل اليومية الهامشية لثنائي يعيش في مخيّم فلسطيني بهذا الصدق وبهذه الشفافية. واللافت أيضا كل تلك الإشارات الصغيرة التي تمرّ مرور الكرام وسط الحوارات المتأزمة، وكأنها تأتي بخَفَر لتضع خطوطا واضحة أمام أصل المشكلة: إحساس الزوجة بأنها غير مرغوب فيها من زوجها بعد الولادة، تفكير علي بمستقبل ابنه يوناس دون أن يعبرّ عن ذلك بشكل مباشر، كغضبه من ترامب الذي يريد أن يوقف تمويل الأونروا، العلاقة الملتبسة مع المخيم كمكان عيش بين مخيمي شاتيلا واليرموك، الإدراك بأن الأمومة بحد ذاتها هي فعل صعب.

يُحسب لميرا صيداوي التي تسطّر تجربتها الإخراجية الأولى قدرتها على نقل النص بكل ما فيه من دينامية وتوتر إلى ممثليها، وتحويل الكلمات إلى أداءٍ عفوي، سلس ومركّب في نفس الوقت، إلا أن المخرجة والكاتبة وقعت في الثلث الأخير من العرض في فخّ التعبير عن مظلومية الزوجين أمام المجتمع، فحلّ إذن مكان الحوار الفذ مونولوجان: الأول هو مونولوج الزوجة التي تتعرض لشتى أنواع التعليقات والتعليمات من سيدات المخيم حول موجبات الولادة والاهتمام برضيعها. والمونولوج الثاني للزوج الذي ينطلق في لوم نفسه لكونه سببا لكل ما يجري لزوجته وله.

بعد سلسلة أفعال ولحظات حوارية وأدائية مدروسة بعناية، يأتي هذان المونولوجان كأنهما ضريبة واجب تجاه الثقل الذي يضعه المخيم وواقع الشتات الفلسطيني، ليؤكدا بشكل مباشر موقع الضحية رغم أن أجمل ما في العرض أن موقع الضحية لم يحتج منذ بداية العرض إلى الإشهار به.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى