كُتّاب عرب يتحدثون عن تأثير «مهن القسوة» على عملية الكتابة… منهم من عملوا سعاة بريد وغاسلي صحون ومهندسين وأطباء

النشرة الدولية –

جعل الكثير من المبدعين من مهنهم بوابات للدخول إلى ميدان الإبداع، رغم أنها مهن قد تبدو غير ذات صلة بالكتابة، لكن أصحابها وجدوا فيها فسحة للتأمل والرؤية، كما فعل الراحل إبراهيم أصلان في مجموعته القصصية «وردية ليل» التي صور فيها مشاهداته خلال عمله لفترة بهيئة البريد كـ«بوسطجي»، وكذلك الأديب السوري زكريا تامر الذي تحوّل عمله في النجارة والحدادة لمشاهد حيّة ظهرت في أعماله، بحسب تقرير نُشر في “الشرق الأوسط” للزميلة “منى أبو النصر”.

 

هنا آراء بعض من خاضوا هذه التجربة حكوا عنها لـ«الشرق الأوسط» كيف حققوا ذلك، واستفادوا من مهنهم في فضاء الكتابة.

مهن القسوة

يستعير الشاعر السوري مروان علي عنوان ديوان للشاعر اللبناني بسام حجار «مهن القسوة»، متخذا منه متكأ لسرد حكايته مع المهن التي طافت به ما بين سائق وعتّال حبوب وغيرها الكثير، ويتذكر في حديثه قائلا: «خلال العطلة الصيفية في طفولتي، قرر أبي أن يبحث لي عن مهنة، عمي جميلو اقترح (ورشة الميكانيكا) عند صديقه الأرمني، أو لدى جدي نايفكو، وبعد أن تأمل جسدي الضعيف والمنهك، أكد أنه يستطيع تأمين عمل لي في مطعم دمشق مقر إقامته الدائمة. وكان والدي يفضل أن أعمل في مكتبة دار اللواء لصاحبها أنيس حنا مديواية حيث الثقافة والعلم والأخبار الطازجة الموجودة بين صفحات (السفير) و(المستقبل) و(الكفاح العربي) و(الهدف) و(الحرية)… وكنت أفضل أيضا العمل في المكتبة حيث أجمل بنات القامشلي.. ولم يقتصر عملي على ترتيب المجلات والصحف وتوزيعها على عدد من المشتركين من أصحاب المحلات في السوق بل تلبية طلبات بنات المكتبة. وفي الصف السابع وخلال عطلة الصيف، عملت في مطعم صغير قرب كراج الموصل في القامشلي، أغسل الصحون وأقشر الثوم وأمسح الطاولات. كان العمل متعبا جدا. وذات صباح قررت البقاء في سريري مستمتعا بالنوم. ثم عملت في مغسلة للملابس، وبائعاً متجولا للبندورة في شوارع قدور بك، وحين صادرت البلدية الميزان، رميت العربة في نهر الجغجغ في لحظة غضب ورجعت إلى كرصور، أمضيت الأسابيع الأخيرة من العطلة الصيفية في قراءة روايات أجاثا كريستي ونجيب محفوظ».

ويتابع صاحب «الطريق إلى البيت»: «في الصف العاشر عملت عتّالا في ورشة يشرف عليها (شرو بافي محمد) ولأنني لم أتحمل حزن العتالين الكرد الفقراء تركت الورشة رغم تهديدات شرور حيث كان يعاملني معاملة ابنه محمد الذي قتل بطعنة غادرة في ظهره، وفي الصف الحادي عشر، اشتريت دراجة نارية وكنت أنقل الركاب الذين يتأخرون في القامشلي إلى القرى المجاورة، في الليل أذهب مع أصدقائي أصحاب الدراجات إلى البدنة وهي منطقة أحراش تفصل بين القامشلي ونصيبين نسكر ونبكي على آهات إبراهيم تاتليسيس ومسلم غورسيز وفردي تيفور». وعن الحكمة التي خرج بها من تداول أيامه مع المهن يقول مروان: «تعلمت الشعر والحياة من العتالين وسائقي الدراجات وبائعي الخضار والعاطلين عن العمل في شوارع قدور بك وكرصور، أكثر مما تعلمت من الكتب، وظهر ذلك في كل ما كتبت».

دفاعا عن الأحلام

أما الكاتبة العراقية فاتن الصراف فقد دوّنت في كتابها «شجرة البمبر» لمحات من عملها في مجال الهندسة المعمارية، والذي جعلت منه مدخلا شخصيا يتسع لأحلام التحقق والمثابرة، عبر سيرة امتدت من طفولتها في البصرة، ومعاصرتها للحرب العراقية الإيرانية، وما تركته من أثر كبير على حياتها وما تبعها من قراراتها بسبب النزوح، ويومياتها كطالبة عمارة في بغداد ومسيرتها المهنية في العراق والتحديات التي واجهتها بسبب الحرب والحصار وصولاً إلى محطات مهمة في عملها في بلاد كأستراليا والإمارات العربية المتحدة.

تقول الصراف: «الكتاب كان رسالة للدفاع عن الأحلام، كتبت عن حلمي الخاص في أن أصبح مهندسة معمارية، تحدثت عن المصاعب التي واجهتني في هذه الدراسة والمهنة لكنها أيضا تنطبق على جميع المهن، وكذلك لأني اخترت جانبا من مهنة الهندسة تتردد النساء عادة في اختياره، وهو المقاولات الهندسية، نسمع كثيراً عن مهندسات ولكن قليلاً ما نسمع عن مقاول امرأة». وعما لمسته من تعلق طلبة العمارة بالجزء الخاص في الكتاب بيومياتها كطالبة هندسة، تقول: «هناك من تعلق بالجزء الخاص بعملي كمهندسة في مجال المقاولات، وهناك من تعلق بالفصول الأولى الخاصة بالحرب، وأتذكر أنه في أحد الأيام كنت في أستراليا وتأخرت الطائرة عن الإقلاع، كنت منزعجة وكتبت بوست على (فيسبوك) أعبر عن غضبي، أحدهم كتب لي تعليقا يطلب مني أن أقرأ الفصل الخاص بتعرض منزلي للقصف، قال لي عليكِ أن تتذكري هذه المصاعب وسوف تشعرين أن تأخر الطائرة أمر تافه لا يستحق الغضب. ثم قال لي: جربي ذلك دائماً لأني استخدم كتابك لهذا الغرض ودائماً ينجح الموضوع معي».

قتل الألم

في غرف العمليات يملك مخدر «البنج» زمام الأمور في العادة، آخذا من يسري في جسده إلى رحلة طويلة في اللاوعي، لكن الكاتب والقاص أحمد سمير سعد، وهو أيضا مدرس بقسم التخدير بكلية الطب بجامعة القاهرة وجد الكثير الذي يريد أن يسجله في كتابه «الإكسير… سحر البنج الذي نمزج»، ويقول عنه: «كل نشاط يعرفه البشر مهما ألزم نفسه بمعايير الخبرة والتجريب يحتوي على جانب إنساني، فما بالنا لو كان النشاط الذي نحن بصدده محاولة لقتل الألم والتخفيف عن المرضى في وقت يزداد الخوف فيه كثيرا وهم يسلمون أنفسهم طواعية لمبضع الجراح أملا في الشفاء.

الغريب أنني كنت أضع خطوات العمل في هذا الكتاب وأنا أستعد لاجتياز امتحانات الدكتوراه في التخدير.

على الهامش أكتب رؤوس المواضيع التي أود الحديث عنها، بعضها ربما قد اقترب من التقنية قليلا، لكن الهدف لم يكن التقنية أبدا بقدر ما كان تلك المساحات البينية ما بين التقنية والإنسان، لذا من يطالع الكتاب سيجد ذلك واضحا حتى في عناوين الفصول، مناقشة الوعي ومفهومه فلسفيا وطبيا وكذلك النوم والتخدير والغيبوبة في مس طريف وخفيف للأسطورة كأسطورة هيدز حاكم العالم الآخر وكذلك للتجارب الحديثة في هذا الشأن. ناهيك عن مناقشة تاريخ الممارسة نفسها والبدايات الأولى المدهشة. مناقشة الخطأ الطبي وفلسفة العقوبة والتشريع مستعينا بالقصة الشهيرة للفنانة سعاد نصر. مناقشة تأثير بعض العقاقير السحرية. صورة طبيب التخدير في المخيلة الشعبية وواقعية ذلك من عدمه. خبرتي الشخصية. وأخيرا مستقبل هذه الممارسة».

في مقدمة الكتاب استخدم سعد تعبير «معبد البنج»، وعنه يقول: «استخدمت هذا الوصف لأن كلمة معبد تستدعي غالبا مفهوم الكهانة والكهنة… هكذا يبدو التخدير سرّا يقوم عليه مجموعة من الكهنة وممارسة طقوسية لا يدري أغلب الناس عنها شيئا حتى أوسعهم ثقافة واطلاعا.

الغريب أن أطباء التخدير أنفسهم القائمين على الأمر وإن كانوا على دراية واسعة بالتقنية إلا أنهم يقفون أمام مفاهيم مثل الوعي وتغييبه واستحضاره بذات الطريقة التي يقف بها الكاهن أمام مفاهيم من نوع الروح والروحانية والقدر والعناية الإلهية… ما حاولته هو تسريب بعض أسرار هؤلاء الكهنة ومساعدة نفسي ومساعدة بعض الكهنة كذلك في مقاربة بعض هذه المفاهيم الصعبة والخفية دون وصول بالتأكيد لإجابات نهائية، ربما لا يمتلكها أحد لكن من أجل النظر إلى عمق الصورة على نحو أفضل».

ويخلص سعد، الحائز على جائزة الشارقة للإبداع العربي 2018 قائلا: «حقيقة كانت عملية كتابة هذا الكتاب ممتعة للغاية، ربما لم يحمل تحريرا من الضغط العصبي للعمل بالمعنى المباشر، ذلك لأن كل مريض جديد هو تحد جديد، يستدعي مشاعر الأمل والرجاء. إلا أنه يمكنني أن أقول إن هذا الكتاب كان تأملا أعمق بزاوية أوسع قليلا ومثل هذه التأملات تضخ في العروق الكثير من الطمأنينة والسلام والقبول – وأجرؤ على القول – والمزيد من الحكمة ربما».

تدوين نفسي

في كتابها «شيزلونج – مذكرات معالجة نفسية» نقلت الدكتورة وفاء شلبي اختصاصية العلاج النفسي مفردات عالمها إلى ساحة الكتابة، مؤكدة على أنه «لا يوجد ألم أعظم من ألم آخر». تقول شلبي: «كتبت هذا الكتاب ومن قبله كتابي الأول (أنا مريضة نفسيا) بسبب رغبتي في نقل عالم التوعية النفسية للقارئ دون استخدام مصطلحات معقدة وبلغة مبسطة، وقد لجأت في كتابي الأول إلى التدوين الشخصي واليوميات، خاصة أنني كنت أحرص على التدوين لهذه اليوميات، قبل أن أتجه للنشر الورقي للكتاب، أما الكتاب الثاني فهو أقرب لقالب الحكاية والقصة. وقد استفدت كثيرا من الكتابين، وأحس أن كتابة هذه التجربة، ساعدتني في الكشف عن أشياء، ربما لم أكن ألتفت إليها، تأتي في صدارتها العلاقة مع قارئ مفترض أو ضمني».

أثر المهنة

الروائية المصرية ضحى عاصي قالت في إحدى مناقشاتها لروايتها «القاهرة 104» إنه بحكم عملها كمرشدة سياحية لأكثر من عشرين عاما، لمست بشكل شخصي تعلق عدد كبير من الناس من كل العالم بالروحانيات التي ربما يبحثون عنها في المعابد المصرية القديمة، في مشهد غارق في الضعف والقوة في آن واحد، وهو المنحى الذي ألهمها كتابة شخصية «انشراح» بطلة روايتها، الغارقة في الإيمان بقوة الروحانيات، رغم أن البطلة ليست مرشدة سياحية مثلها، تقول ضحى عاصي: «المهنة التي يمارسها الإنسان هي جزء من تكوينه وعالمه، وبالضرورة تؤثر على مهارته وخبراته، والتي من دون أدنى شك تظهر في كتابته حتى لو لم يتطرق إلى مهنته وتفاصيلها بشكل مباشر، مثلا إذا كان الكاتب طبيبا هذا لا يعنى أنه سيصف حالات المرضى، ولكن خبرته في التعامل مع الإنسان في لحظات الضعف والألم حتما ستظهر في أعماله، عن نفسي لم أكتب بشكل مباشر عن مهنتي في الإرشاد السياحي والترجمة الفورية، فلم أكتب مثلا عن الحضارة المصرية القديمة بتنويعاتها، والتي قضيت عمري أشرحها وأحفظ كل رسم على جدران معابدها، ولكنى أعتقد أن معرفتي بهذا البعد الحضاري والتاريخي للشخصية المصرية يظهر حتى لو من دون قصد في رسم الشخصية الروائية بالإضافة إلى اتساع الجغرافيا والتاريخ فكل هذه التفاصيل المعرفية من المؤكد لها أثر ما في كتاباتي».

زر الذهاب إلى الأعلى