أين يقع قصر المهاجرين؟* سوسن مهنّا

النشرة الدولية –

قد يكون البطريرك مار نصر بطرس صفير رجل الدين المسيحي الماروني الوحيد الذي إعتمد سياسة قريبة لنهج الثوار الذين ترعرعنا على سيَرهم، والذين قادوا شعوبهم نحو الانعتاق والحرية، نحن من جيل أَلهٍمَ بالماركسي إرنستو تشي غيفارا كرمز للثورة على الطغيان، ونحن من جيل استيقظ على بلد خاضع لهيمنة ووصاية ومعتقلات تابعة لنظام بعثي، تبعنا البطريرك من كل الطوائف والمشارب لأننا وثقنا به وأمنّا بأقواله. تشي كان علماني والبطريرك صفير كان رجل دين الا أنهما وبطريقة أو بأخرى حثا على الثورة بإسم الحرية.

ما يدعي ربما الى إعتماد هذه المقاربة هو أن “ختيار بكركي” بإبتسامته الهادئة الودودة وتواضع وتقشف قل نظيرهم، ليت زعماء البلد يحذون حذوه، جيّش قلوب جيل الاستقلال الثاني بمبادئ ثورة الأرز ومفاهيم 14 آذار، وهو ما يقربه كثيراً من شخصية وخصال “تشي” اللاتيني.

كان بجملة بسيطة يستطيع أن يلخص بياناً سياسياً طويلاً “يا جاري انت بدارك وأنا بداري”.

هذا الرجل المتطرف حتى العظم للبنانيته، دافع عن هذه اللبنانية بمفاهيمه، هو الذي شهد على ولادة لبنان الكبير، كان يرى لبنان بشقيه المسيحي والمسلم بعيداً عن تحالف الاقليات.

لم ينتظر طويلا بعد انسحاب الاسرائيلي عام 2000 ، حتى ألهب شرارة التحرك للمطالبة بخروج السوري ووضع حداً لوصايته، يوم كان  الحديث عن هذا الامر يعتبر من المحرمات، ودفع بهذا الاتجاه الى حد رعايته لقاء “قرنة شهوان”، لكن هذا الموقف المعترض على الوجود السوري لم يكن الأوحد، اذ سبقه ولحقه مواقف عديدة سلطت الأضواء على البطريرك صفير مما دفع بالنظام وأعوانه منع إذاعة عظاته.

هذا الرجل المتطرف حتى العظم للبنانيته، دافع عن هذه اللبنانية بمفاهيمه

أقدم على مصالحة الجبل مع وليد جنبلاط 5/8/2001 تلك الخطوة الشجاعة الجبارة سبقها موقف من زعيم المختارة لاقى فيه نداء بكركي من على منبر مجلس النواب، النداء الذي صدر 20/9/2000 ودعا حينها الى اعادة انتشار جيش النظام السوري في لبنان تمهيداً لانسحابه الكامل وذلك تطبيقاً لوثيقة اتفاق الطائف. كان من المعترضين على رغبة سوريا بالتمديد لرئيس الجمهورية السابق إميل لحود عام 2004، معتبراً التمديد خطوة غير دستورية، يومها قال الشهيد رفيق الحريري الذي كان من المعترضين أيضاً على التمديد، “كلام البطريرك بطريرك الكلام”.

مار نصرالله بطرس صفير، كان صريحاً حين تحدث عن التوطين “لبنان ليس البلد المناسب لتوطين الفلسطينيين”، مبرراً ذلك بأنه “بلد صغير بالكاد يتسع لسكانه”. وطالب البلدان العربية الأخرى بالقيام بذلك لما تمتلكه من إمكانيات، نافياً في الوقت نفسه “أن تكون هناك أية ممارسات تدفع الفلسطينيين لمغادرة لبنان.

وحين تحدث عن سلاح “حزب الله” كان واضحاً ومباشراً، واصفاً إياه بالحالة “الشاذة” وهذا ما ألّب عليه الأعداء والخصوم، طالب الحزب أن يكون “وطنياً” أكثر من انجذابه إلى إيران، أن “الروابط الدينية تتحول لتصبح روابط سياسية، وأن السلاح في يد “حزب الله” ممتدة مخاطره على لبنان كله حيث يمكنه توجيهه إلى حيث يشاء”، ولم يستبعد أن يحاول السيطرة على لبنان مستقبلاً بقوة سلاحه 16/6/2010.

هنا قد يكون بدأ التحريض ضد البطريرك لإزاحته من منصبه من قبل حلفاء سوريا في البلد، وسرت اشاعات عن تدخل الفاتيكان لحث البطريرك لتقديم استقالته، وهناك من نقل عنه انه أقدم على الاستقالة 2011 لقناعاته الشخصية، تحديداً بعد المناخ السياسي الذي ساد في المنطقة، والانتكاسات التي أصابت ثورة الأرز، كما نقل عنه العلامة الراحل السيد هاني فحص عندما سأله عن اسباب الاستقالة: “قلنا نذهب وعقلنا معنا أفضل من أن نذهب وهو ناقص”. وجاءت في هذا السياق وبعد عامين من استقالته التي تعد سابقة، زيارة خلفه الكاردينال الحالي بشارة الراعي لدمشق العام 2013، ليكون أول بطريرك يذهب إلى سوريا.

في آخر حديث تناقلته وسائل الاعلام للبطريرك صفير يعيد تأكيده على أن “يكون لبنان مستقلاً ويحافظ على استقلاله”، وبخصوص عدم زيارته سوريا يقول “لأن من زاروا سوريا رأينا كيف صاروا”.

بخصوص عدم زيارته سوريا يقول صفير : “لأن من زاروا سوريا رأينا كيف صاروا”

ما قلتَه قد قلته سيدنا لكن ماذا عن الذي لم تقله؟

ألم تتحسر على الاستقلال غير الناجز الذي وضعك في عين العاصفة وجعل منك عدوا ً للنظام السوري، وأوصل البلد الى ما وصل اليه؟

ألم تتحسر لتشرذم زعماء الموارنة تحديداً واللبنانيين عموماً؟ ألم تسأل لِمَ تغير وجه ووجهة لبنان؟ ومن المسؤول؟

يكفيك شرفاً سيدنا أنك رحلت ولم تعرف أين يقع قصر المهاجرين، هنيئاً لك جنة الخلود، حاولوا تطويعك سيدنا ولم ينالوا، يكفيك أنك دخلت أبواب التاريخ من أوسعها، قلت “نحن لا نطلب المستحيل”، أراني بك قد فعلت، عندما جمعت تحت شرفتك كل أطياف ومذاهب وأعلام اللبنانيين، كلماتك باقية حاضرة، كصوت ضحكتك الدافئة.

كنت مثالاً راقياً لرجال الدين الذين يتعاطون السياسة ليرفعوا من قدر السلطة لا لينزلوا إلى مساوئها.

“نعلن آراءنا، ولكن السياسة ثانوية بالنسبة لنا، ودورنا السياسي يهدف لتهذيب النفوس بواسطة الدين”.

مجد لبنان أعطي له

السياسة اللبنانية

بيروت 15/ آيار/ 2019

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى