الحبّ قوي كالموت للأديب العراقي عباس داخل حسن

النشرة الدولية –

بقلم: عباس داخل حسن – العراق …

تقديم بقلم د. سناء الشعلان

في أربع قصص من مجموعة  الحبّ قويّ كالموت” للأديب العراقيّ عباس داخل حسن، وهي القصص التي تحمل العناوين :”بُورتَرية لحزن قديم”، و”الحبّ قويّ كالموت”، و”هروب”، و”قبر الشّريدة” هناك سيل من المشاعر البشريّة القلقة والموجوعة والمعذّبة بعذابات مختلفة، وكاّن عبّاس الأديب يحاول أن يعرّي آلام الإنسانيّة جميعها في آن عبر سياحة في أزمان ومواقف وأحاسيس، وهذه السّياحة علىالرّغم من عبثيّة التّطواف والاختيار التي تظهر على سطحها بافتعال مقتدر، إلاّ أنّنا نجد أنّ هناك شبكة من الوشائج المؤلمة التي تربط هذه القصص، ولعلّ الألم هو البطل الحقيقيّ في هذه القصص الاربع، ومن ثم يتموضع الألم في أماكن مختلفة، ويبرز في مواقف الشّخصيّات وحيواتها، ويظلّ الأمل هو ذلك النّفس السّحريّ الذي يحاول أن يجبر الكسر، ويؤمل البشريّة الحزينة بغد ينتصر على الهزيمة والوجع، والأمل الأكبر المفترض في هذه القصص هو الحبّ الذي سينتصر على كلّ ضعف، ويتربّع على حقائق الوجود، كما يتربّع الموت على الحقائق ذاتها.

(1)

بُورتَرية لحزن قديم

ما حدث نزولاً وصعوداً في مدن الأحزان، مدن أزليّة بناها الإله “لبيتوم” من عرق ودماء الرّعية الوادق على أديم الأرض وحولها لصلصال عنيد، آجر سرمديّ لمعابد الملوك الصّاعدة نحو السّماء، ملوك تمور في قلوبهم الحكمة والشّجاعة والبطش، جلب بحارتهم جذوع الأرز والتّوابل والطّيب على سفينة “زيوسودرا” لتشيد المعابد والقصور قبل الطّوفان

ابتزها الزّمن ونهبتها الرّيح والاحتلالات المتناوبة، وعلى الرّغم من ذلك بقيت الرّؤوس تشرئب بعناد صلب لتعانق القمر العالي. اندثرت الأماني، وضاعت النّفائس في الرّمال، وغرقت الأحلام في المجهول، وانسلّ الغرباء من كلّ أصقاع الأرض بمساعدة الخونة، سرقوها في وضح النّهار على مسمع ومرأى الآلهة، وتحت أنظار حراسها القرويين، وعلى متن طائرة عسكريّة هَرَبَ رأس جلجامش ليس بحثاً عن الخلود، وُضع عبثاً في قاعة تحيط بها منبّهات الإنذار؛ خوفاً عليها من سرّاق جدد، بعيداً عن رائحة القصب والبردي، وفي الزّاوية الأخرى من القاعة بقايا من حلي عشتار ولحية حجريّة من اللازورد المقدّس . قبل عقود خلتْ حملتْ سفن بريطانيّة يحرسها هنود قساة آلاف النّفائس الحجريّة وأختام أسطوانيّة مختلفة الأحجام وثور بجناحين من صدف التّماسيح وقيثارة من الذّهب الخالص كفت أوتارها عن عزف الأنغام للآلهة والعشّاق، فارقتها أنامل مغنية سومر أور-نانشة التي بقيت تجلس القرفصاء وحيدة تعلّم الجنوب الغناء الحزين، وكفت عن ترديد التّراتيل والابتهالات، سلبت آلاف التّمائم والرّقي المحفورة على الأحجار الكريمة ولوح العدالة للمفدى أورنمو. مع كلّ غزوة تظهر نفائس وأسرار تدحض خرافات الكهنة وسدنة القبور، وما سطّرته كتب الأوّلين، بدأ حزن سرمديّ يهيمن على الحفدة، وفي كلّ صباح يلبسون كرامة مزّيفة، ويدّعون فخراً كاذباً بامتلاكهم سرّ الجهات الأربع، و يقنعون أنفسهم بأنّهم من نسل الملوك السّاقطين من السماء، وهم يحافظون على ميقات صلواتهم المشفوعة بتضرّعات الرّبة المقدّسة بوهمها العظيم بأنّ تخلصهم من حزنهم السّرمديّ لأنّ أحزانهم ل اتشبع من المصائب والحروب والفيضانات، يحدوهم أمل بأنّ تحميهم من لعنات القضاة السّبعة التي تلاحقهم دون هوادة. أدمنوا الحزن في جلساتهم ومناسباتهم جميعها، وحفظوا الأدعية والمراثي عن ظهر قلب منذ موت نبوخذ نصر العظيم، كما يكنوه بافتخار على الرّغم من ميتته الشّنيعة.

خرائب سومر ذات سفر 2018

(2)

الحبّ قويّ كالموت

في ساعة يأس قررتْ أن تضع حدّاً فاصلاً لحياتها بعد أن فقدت زوجها في الحرب العبثيّة للمليشيات الخرقاء، التي لا تحمل اسماً، لم يذكرها التّاريخ. ألحت عليها فكرة مجنونة بالانتحار من أعلى نقطة في جسر “النّصر” الذي بقي محتفظاً باسمه على الرّغم من الاحتلالات والهزائم المتوالية، وهو إرث من الاحتلال الإنكليزيّ. هنّئت نفسها على هذه الفكرة المجنونة لتنجيها من غرق الفقر والامتهان والعوز دون أن تشعر بالمهانة ونظرات الشّماتة والتّشفي، حثت الخطى إلى أن وصلت إلى النّقطة العلية التي كانت ترومها على حدود الجسر، وقفت تتأمّل باتّجاه الشّرق. نظرتْ تحتها، كان النّهر بلون بني غامق، صفعتها رائحة كائناته الزّنخة، وأصابها دوار رخو دون أن تكترث بالمارة، وعندما همّت بإلقاء نفسها، تذكّرت أنّها لم ترضع طفلتها ذات الشّهور السّبعة التي تركتها راقدة إلى جنب أمها المصابة بالسّرطان، جرتْ بخطوات مسرعة بخطوات مجنونة متعثّرة تثير تساؤل المارة. تناهى إلى سمعها أصداء كلمة ممطوطة مثل صراخ متشابك في رأسها: مجنونة.

ناصرية – خرائب سومر 2017

(3)

هروب

عبّ آخر جرعة من قنينة “العرق” التي أمامه دون ماء، كان يشرب كلّ ليلة وحيداً منذ أن نجا مع الفارّين إلى هذه الأرض المتجمّدة عبر البحر. بات وحيداً مصلوباً تحت نجمة الفنيقيين، وحارستهم أوقات التّيه، التي بفضلها عبروا البحار والمحيطات قبل قرون خلت، وعادوا على هداها سالمين. غرف ملّعقة من الخاثر الحامض ولطعها بتلذذ، ويحدوه أملاً بأن يهرب إلى أقاصي الذّاكرة للهروب من وحدته، زفر بأغنية لجوجة مخبوئة مثل ذبحة صدريّة: غريبة الّروح، غريبة الرّوح. صمتَ هنيهة، وأطلق شتائمه الصّاعقة المتمادية كعادته لاعناً المدن الخربة، وكلّ قاذورات السّلطة الرّخيصة في بلاده، شهق نفساً عميقا،ً وللمرّة الأولى شعر بالمكان بارد كالموت منذ أن قطنه منذ أسابيع خلت.

فنلندا شباط 2018

(4)

قبر الشّريدة

صباحاً سلكتُ طريقاً مختلفاً على غير عادتي باتّجاه المدينة، ،مررتُ على مقبرة شهداء الحرب الأهليّة الطّاحنة على التقاء جادتين. استوقفني قبر شريد خارج السّياج الحجريّ الخفيض، كنتُ معبّئاً بأفكار مشوّشة حول النّقوش والمصادفات الغريبة لسكان المقبرة وبياناتهم المحفورة على الشواهد الحجرية. انحنيتُ على وردة برية بلون أزرق فاقع، وضعتها على القبر، قرأت على شاهده الحجريّ “هنا ترقد الشّريدة، نينا ماتت في العشرين من عمرها “ومن دون أيّ ذكر لأيّ معلومات أخرى، كما هو مكتوب على شواهد القبور الأخرى، مثل تاريخ الميلاد و سنة الوفاة ولقب العائلة، ودون ذكر لنقش الملاكين على اليمن والشمال . تأمّلتُ قبر الشّريدة النازح خارج المقبرة والصّليب الحديديّ الصّدأالمغروس أعلى شاهدة القبر بنظرات باردة . شعرتُ بارتياح؛ لئلا تتهمني الشّريدة بالتّجاهل لها، مثل الآخرين، وإن كانت الوردة على قبرها بريّة من الله غير مدفوعة الثّمن.

فنلندا ذات ربيع مزهر

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى