التريند، ساعة التعاطف المؤقّت !* أصلان بن حمودة
النشرة الدولية –
ما إن يقع حدث ما، كأن يضرب زلزال الأرض، أو تتعرض منطقة إلى سيل جارف من الأمطار فيتحول الأمر إلى فيضانات تهدم المنازل وتودي بحياة العشرات، تلتهب منصّات التواصل الاجتماعي بمئات الصور و الفيديوهات الصادمة. وتنطلق مئات الحسابات في بثّ العديد من المشاهد الحيّة والمباشرة… تتلوها مئات الدعوات لتقديم تبرّعات لمساعدة من هم في حالة لا يحسدون عليها، وتبدأ جحافل القادمين بالتوافد على المنطقة المنكوبة حاملين في دواخلهم الحسرة والأسى لحال المنكوبين وفي جعبتهم بعض الكساء وما تيّسر من الغذاء والدواء، ثم تحضر ثانية الهواتف المحمولة ليتحوّل المكان لأستوديو تصوير وموقع لالتقاط السلفي، ويستمر هذا الأمر لمدّة وجيزة لا تتعدّى الاثنان وسبعون ساعة، ثمّ يخلو المكان من الجميع ليبقى المتضرّرون بمفردهم تلفّهم الحيرة و الضياع…، بعدها مباشرة تتصاعد الأسئلة الوجودية والحارقة : أين ذهب الجميع؟ لتأتي الردود جاهزة: لقد انتهى وقت الاعتناء بنا، ليعقّب آخر: لقد تجاوزتم الوقت المخصّص لساعة التريند خاصّتكم، ربّما وضعت مطربة ماوشما جديدا في مكان مثير، أو طلّق سياسيّ بارز زوجته إثر فضيحة أخلاقية، أو انتقل لاعب كرة قدم من نادٍ إلى آخر إثر سباق محموم حول الظفر بخدماته، أو ورد خبر ما عن فضيحة ما في مكان ما.. لا أدري، لكن المؤكّد أن بوصلة التريند تجاوزتكم لتتوجّه إلى محطّة أخرى.
التعاطف الإنساني سمة بشرية شائعة بين البشر، قد تدوم لسنوات، لأشهر، لأيّام وأحيانا لساعات أو لفترات زمنية ليست محددة، لكنّ الفترة الزمنية للتعاطف الإنساني في عالمنا العربيّ و الخاضعة للتريند أضحت مؤخرا مضبوطة بالحدّ الأعلى على ثلاثة أيّام كأقصى تقدير، حيثُ تكون معدّة قبل حدوث الكارثة للاستعمال، وفور وقوع الحدث يبدأ العدّ التنازلي الخاصّ بها لتنتهي بعد 72 ساعة مباشرة، حيث لم تعد هناك أحداث تدوم أخبارها لأكثر من هذه الفترة الزمنية، فلو هاجمت دولةٌ دولةً أخرى بسلاح فتّاك ودمّرتها، أو تسبب هجوم دمويّ عرقيّ ضدّ مجموعة من العزّل بأحد القرى النائية فيإبادتهم جميعا وتسويتها بالأرض، لما دامت أخبارها لمدّة أطول.
مثلت حادثة وفاة العاملات الفلاحيات في سيدي بوزيد – معتمدية السبّالة تحديدا- منذ فترة إثر نقلهنّ في ظروف غير آمنة وبطريقة غير إنسانية لا تتفق مع معايير نقل الأشخاص في المهمّات المهنيّة في شيء، حادثة مفجعة صدمت المجتمع التونسي حيث لم تقلّ حدّة عن حادثة ذبح الجنود بجبل الشعانبي منذ سنوات. حدث جنّد الجميع للحديث عن واقع المرأة الريفية وللاصطفاف وراء المنادين بحفظ كرامتها وحقّها في حياة كريمة وضمان معيشة لائقة.كأنّ مطلب الحياة الكريمة أصبح أمرا موسميا في هذه البلاد يجب أن ننتظر حدوث كارثة أو تدهور وضع ما لنرفع شعارات تنادي به. إنّ ما تعانيه المرأة الريفية من ظلم وتعسّف دفعها لخوض مغامرة مجهولة النهاية في سبيل لقمة عيش دون النظر في عواقبها. هذه المغامرة المجهولة التي تنطلق يوميا بنفس الوتيرة في أولى ساعات الفجر لتنتهي مع غروب شمس نفس اليوم شاء القدر أن تنتهي يوم السابع والعشرون من شهر أفريل الماضي مبكّرًا. صدمة الفاجعة دفعت أحد أقارب العاملات المسنّات التي قضت نحبها في الحادثة إلى رفع غطاء رأسها الزهري فوق سطح منزلهم تبرّكًا بها وبشهادتها حيث قضت نحبها في طريقها إلى العمل – وتلك عادة أهل المنطقة في رفع علم أخضر وأحمر في الأفراح و الأعراس أو حتى العودة من الحجّ وأحيانا تبرّكًا بالصالحين الذينيحتفلون بزيارة أضرحتهم في مناسبات معيّنة مثل الزردة – ليتحوّل الفعل بعد الاستفاقة من هول الصدمة إلى ردٍّ جارف على الحادثة ورمزٍ شعبيّ للانتماء إلى الغاضبين على ذلك الوضع بعد أن كان للدلالة على منزل الشهيدة ومكانتها.
صورة الغطاء الرأسي أو ما اصطلح عليه » المحَرْمَة »، صورة تداولها نشطاء الفيسبوك و مواقع السوشيال ميديا تحت مسمّى « علمُ الكادحات في وطني » مع شعار » محَرْمَتُكِ هي راية الوطن « . هذه « المحَرْمَة الزهرية » التي تحيل الأمّ حديقة وهي تلبسها حيث كتب الشاعر نزار الحميدي منذ سنوات في وصف لهذا المشهد « امرأة أنت أم حديقة .. أسأل أمّي و هي تدخل بملاحفها الزهرية ». هذه « المحَرْمَة »رفعها بعض النوّاب تحت قبّة البرلمان كما لبسنها أغلب النسوة الناشطات في مجال حقوق المرأة إثر الحادثة بعد أن كانت اللباس أو الغطاء الرأسي الذي يُوسمُ منذ مدّة بلباس العجائزويصل الأمر بالبعض إلى وصفه « باللباس الڤُعرْ » في صفوف الشباب أحيانا حيث لا أحد غير الريفيات كنّ يرتدينه كغطاءللرأس.
علمُ الكادحات في وطني، محَرْمَتُكِ هي راية الوطن وسمان انطلقا استعمالهما يوم الكارثة، و تواصل العمل بهما لثلاثة أيام علت فيها الأصوات منادية بضرورة تحسين وضع المرأة عموما وخصوصا العاملة في القطاع الفلاحي واستخرجت من الأرشيف الاتفاقيات الممضاة وغير المفعّلة في فضحٍ للسياسات الفاشلة المتراكمة على كاهل الدولة تجاه مواطنيها وبلغت ذروتها إثر تصريحات وزيرة المرأة حيث اعتبرها الأغلبية صادمة.
وفي شدّة أوج التناول الإعلامي للكارثة أعلِن عن إيقاف بثّ قناة خاصّة تحظى بنسبة مشاهدة عالية في صفوف المجتمع التونسي ولم يتوقف الأمر عند ذلك فقد أعلِنَ اثر ذلك عن دخول عمال نقل الوقود في إضراب لمدّة ثلاثة أيّام ما سبب نقصا في تزويد المستهلكين بالبنزين وكحلّ لهاته الأزمة المستجدة في هذا القطاع الحيويّ تم تسخير قوات الجيش الوطني لتنظيم عملية التوزيع. موجة التريند هذه بدورها لم تدم طويلا فقد خفتت تدريجيا وتحوّلت الأنظار إلى موضوع آخر ألا وهو آخر الاستعدادات لشهر رمضان المعظّم. هذه البوصلة المجنونة لم تستقر أبدا على وجهة واحدة فقد غيّرت وجهتها مرّة أخرى نحو محطّة جديدة في نقدٍ حادٍّ لمشهد فتاة تشرب الخمر في أحد المسلسلات التي تبثّ بقناة خاصة أخرى حيث لم تلقى استحسانا من قبل المشاهدين ومقارنتها بأخرى تشبهها تماما بمسلسل آخر تقبلّها الجمهور في حركة عادية. الواضح أنّ موجة التريند لا تدوم طويلا إذ تخفت مباشرة بعيد الحدث، وفي وقت يتوقع فيه المتابعين تطوّر الأمر للوصول إلى الذروة القصوى من التشويق في تناول الموضوع يكون التريند حينها متوجّهًا إلى منطقة أخرى. خصوصا بالنظر إلى سرعة تغيّر المواضيع لا سيّما وأنّ محرّك التريند في تونس – الفيسبوك – هو نفسه أداة تفعيله وتقييمه وتغيير وجهته.
ببساطة شديدة أضحى الرأي العام دمية الحقل القصديريّة، ضجيج و صفير دون فائدة بالإضافة إلى منظر موحش مفزع. منذ أيّام رأيت صورة عامل يُفطِرُ حذو مكبّ قمامة، لأنّ الوقت داهمه بعيدا عن منزله. وما أثار استغرابي أنّ الصورة كانت خالية من التفاعل الافتراضي، لأنّ التفاعل سرقه مسلسل أثار ضجّة في أوساط المتابعين للشاشة الصغيرة في جنوب الكرة الأرضية ومباراة في النصف الآخر بين برشلونة و ليفربول…،
التريند، ساعة غير دقيقة تتحكّم في توجّهات الملايين ولعلّ أحد أبرز المتحكمّين فيها موجات التفاعل والتعاطف المؤقّت عبر المتابعين أنفسهم. موجة تعيد كتابة التاريخ يوميا من خلال عدّة أسطر على منصّات التواصل الاجتماعي، عادة ما تكون أغلبها غارقة في الأخطاء الإملائية والنحوية تصحبها بعض الصور التي تنقص جودتها بعد كلّ عمليّة تحميل فالكلّ يريد نسب الصورة الأحدث والأكثر جذبا للتفاعل لنفسه دون مراعاة لحقوق الملكيّة الفكرية.