سرقات العصافير… ونهبهم* د. خولة مطر
النشرة الدولية –
في صفاء يوم صيفي قرب البحيرة والشمس تصارع بأشعتها غيمة وأخرى، فتسرق لحظات ترسل من خلالها دفئها، جاء النادل ومعه طلبها، كوب من القهوة بالحليب، لاحظت قطعة البسكويت التي وضعها على حافة الطبق، عادت إلى قراءة جريدتها وخصوصا تلك المقالة عن السرقات الكبرى التي شهدها التاريخ القديم والحديث منه.
هجم سرب من العصافير واقتربت مجموعة منها لتجلس على حافة الكرسي أو المائدة، لم يقترب أي منها من كوب القهوة، ولكن في لحظة من التأمل لحركة العصافير وهي مجتمعة في حين البشر متفرقون، رحل السرب كما حضر تاركاً خلفه بقايا تغريداته الجميلة وفراغ قطعة البسكويت التي اختفت بمجرد أن رحلت، في حين يبدو أن أحدها انشغل بها والآخرون حاموا حوله وجلسوا قريبين حتى لا يعتقد أي أحد أن لديهم رغبة خاصة.
رغم تلك السرقات البريئة تبقى بداية اليوم أجمل وأكثر انشراحاً، وهي تبدأ بسرب العصافير، من أن تبدأ يومك بنظرات بعضهم! تبقى هي سرقات رقيقة كما رقة العصفور ذاك الكائن الضعيف الناعم جداً، والذي لم يستهوِ إلا بعضهم ليحولوا صيده إلى هواية وعظمه إلى طعام شهي! حتى تردد هي دوما استضعفوك فأكلوك وإلا لماذا لا يستهويهم لحم الضباع؟
وهي في نهاية الأمر سرقة ترحمك من بضع سعرات حرارية، وكثير من السكر والدهون المخزنة في قطعة البسكويت البريئة، تعود لتلك المقالة في جريدة “النيويورك تايمز” فهناك حملة تطالب كثيراً من الدول الأوروبية والولايات المتحدة بعدم التذمر من المهاجرين، وما يقولون إنه عبء إضافي على هذه الدول واقتصاداتها، ويبرر القائمون على هذه الحملة مطالبهم هذه بأن الاستعمار لسنوات طويلة والاحتلال والحروب التي خاضوها في تلك الدول وكمية الظلم وعدم المساواة التي تعرض لها أبناء الدول المستعمرة والمحتلة، والتي عاشت تلك الحروب الشرسة “بالأسلحة الذكية”! هي سبب هجرتهم، إلى جانب مسؤولية تلك الدول عن تلوث البيئة بالكربون ورمي النفايات في بحار الدول النامية عند شواطئها وعلى أراضيها مثل السواحل الصومالية، على سبيل المثال لا الحصر، حتى عز على الصوماليين، الذين يعانون الفقر وظلم البشر واستغلالهم، عز عليهم أن يحصلوا على وجبة من السمك الذي كانوا يصدرونه لبقاع الأرض.
وهذه حملة لا تطالب بأن تقوم الدول الأوروبية والولايات المتحدة بتعويض الشعوب التي عانت العبودية والاستعمار والاحتلال والظلم السياسي والاقتصادي والتهميش والعنصرية، لا تطالبهم بأن يرسلوا بحقائب الذهب والدولارات بل أن تفتح حدودها بشكل متساوِ حتى تكون هناك عدالة في التبادل التجاري، وفي تنقل البضائع والبشر دون حواجز وعراقيل، فهناك اليوم ربع مليار مهاجر من مختلف دول العالم، وهم يهاجرون لأن الأغنياء والدول الغنية والشركات المتعددة الجنسية قد سلبت مدخراتهم ومدخرات أبنائهم وأحفادهم، وتركتهم بأنظمة وقوانين وأحكام كلها تساهم في بقائهم تابعين وفقراء ومهمشين على صعيد أوطانهم وبين شعوب الأرض.
ويقول بعض المسؤولين عن هذه الحملة إن على الدول التي استعمرت الشعوب أن تسمح بهجرة أبناء تلك الدول التي استعمروها، وعليهم ألا يسمحوا لهم كعمالة مؤقتة، أي عندما ينتهي دورهم في إعادة الإعمار بعد الحروب العالمية يطالبونهم، بالعودة فقط!! بل عليهم أن يسمحوا لهم بأن يعيشوا وأن تتوافر لأبنهائهم وأحفادهم فرصاً أفضل لكسر حلقة الفقر بالعلم والمعرفة وفرص العمل اللائق، وأن تتوافر لهم كل الحقوق الأساسية للمواطنين.
وتذكّر هذه الحملة بـ12 مليون إفريقي الذين تم استعبادهم، وأنه يحق لأحفادهم أن يعوضوا سنوات الظلم والقهر بفرص أكبر في الحياة، كما تطالب بضريبة على الدول الصناعية التي ساهمت في التلوث وتغير المناخ، فالولايات المتحدة وحدها مسؤولة عن ثلثي التلوث العالمي، وأوروبا عن ربع التلوث، وفي المقابل تدفع شعوب الجنوب ودوله الأثمان المرتفعة من فيضانات وبراكين وجفاف وهجرة ما يقرب من 100 مليون بسبب العوامل الطبيعية.
تعود العصافير باحثة عن بقايا كعك أو خبز من أطباق غنية بكل ما لذّ وطاب، فكم تبعد تلك العصافير عن أولئك البشر، هي سرقاتها بريئة وهم يسرقون تاريخ أوطان وحضارتها ومستقبلها.
ينشر بالتزامن مع “الشروق” المصرية