موت الزمن المتكرر* لمياء المقدم
النشرة الدولية –
لا يحدث الزمن مرتين، ولذلك فما يأتي يأتي مرة واحدة وما يذهب لا يعود. لا شيء يتكرر. كل لحظة هي حياة كاملة لزمن يولد ويموت بكل ثقله.
لا يحدث الزمن داخل نفسه وإنما خارجه، ولذلك هناك زمن للزمن، لحظة ميلاده هي لحظة سابقة للزمن، ولحظة موته هي لحظة لاحقة له. وكل لحظة هي لحظة تحدث داخل زمن يخصها وحدها. الزمن أزمنة على هذا الأساس، كلما رفعت طبقة وجدت تحتها أخرى.
أعتقد شخصيا أن الزمن طبقات، وأن اللحظة ليست أفقية ولا عمودية، وهي لا تذهب من الوراء إلى الأمام ولا من الأمام إلى الوراء بل من السطح إلى العمق، ولو قدر لنا أن نرى الزمن على شكل كتلة فيزيائية فإنني أتخيله على هيئة كرة ضخمة، تماما مثل الكرة الأرضية. ونحن ندخل داخلها إلى أن نصل إلى قلبها. قلب كل شيء: الموت.
قديما كانوا يصورون الزمن على شكل نفق مظلم نتوغل داخله بلا توقف إلى أن نبلغ الظلام النهائي ويبتلعنا.
وعي الإنسان بميلاده وموته المتكررين يجعله المتحكم في الزمن وليس العكس، فالزمن أعمى يولد ويموت دون أن يعي ذلك
ولو أن الزمن يتكلم لحدثنا عن موته المتكرر، التجدد الذي لا يتوقف لحظة. وموت الزمن المتكرر لا يعني شيئا في الحقيقة سوى أننا نموت معه في كل لحظة، فالزمن الذي يحملنا على عاتقه ويمشي، الذي يمدنا بالهواء ويفتح أعيننا يتكسر ويتحلل بلا توقف، كأنه لم يكن أبدا ونحن نتكسر معه ونموت.. ونموت.. ونموت…
الموت حقيبتنا الكبرى التي يدور حولها وجودنا، نموت مع الزمن في كل لحظة ونولد من جديد. الولادة والموت فعلان يحدثان بالتزامن مع بعضهما البعض، وهما نافيان لبعضهما البعض، ولكنهما مكملان لبعضهما البعض أيضا. لا حياة من دون موت ولا موت من دون حياة.
يولد الإنسان واعيا بميلاده، فهو يعرف أنه يأتي إلى الحياة، وأن اللحظة اللاحقة لميلاده هي لحظة موته، ثم ميلاده ثم موته، وهكذا إلى آخر الموت. تحدث الحياة من التكرار، ويحدث الموت من التكرار أيضا وكلاهما حاضر على الدوام.
الحياة والموت المتكرران داخل الزمن هما ما يحرك الزمن، ولو أننا ولدنا مرة واحدة، لو أننا متنا مرة واحدة لتوقف الزمن عن الدوران (هل يدور الزمن فعلا؟). يقلد الإنسان ميلاده في كل لحظة، ويعرف أن عليه أن يموت في كل لحظة. ولولا وعيه بالخلق لما استمر في الوجود. يوجد الإنسان لأنه يعي خلقه ويتمثله.
لكن من الذي يتحكم في الآخر: الإنسان أم الزمن؟ نعتقد خطأ أن الزمن يتحكم في الإنسان ويفرض سطوته عليه ويقهره، وأن الإنسان عاجز تماما عن السيطرة على الزمن وإخضاعه له، والحقيقة أن العكس هو الصحيح. كل لحظة تولد وتموت هي لحظة ميلاد وموت الإنسان أيضا.
الولادة والموت فعلان يحدثان بالتزامن مع بعضهما البعض، وهما نافيان لبعضهما البعض، ولكنهما مكملان لبعضهما البعض أيضا
الزمن والإنسان، الكون بأكمله، يولد ويموت في كل لحظة. إن الأمر يشبه لمبة تضاء وتطفأ بيد أحدهم. تلك اليد هي يد الإنسان نفسه، أو يد وعيه بالخلق. يكرر الإنسان لحظة ميلاه بلا توقف وهو ما يجعل الكون من حوله يتشكل. يشبه ذلك دوائر تطفو على سطح الماء وتتوزع فوقه. هناك الدائرة الأولى (لحظة الخلق) التي تتكرر على شكل دوائر أوسع وأوسع، ولولا تلك الدائرة الصغيرة الأولى لما وجدت باقي الدوائر، لولا الزمن الأول لما وجدت باقي الأزمنة.
يصنع الإنسان الزمن الأول، دائرته الأولى التي تتكرر بلا هوادة. كل دائرة تموت تولد من ظهرها دائرة جديدة ستموت بعد قليل أيضا.
وعي الإنسان بميلاده وموته المتكررين يجعله المتحكم في الزمن وليس العكس، فالزمن أعمى يولد ويموت دون أن يعي ذلك. يأتي ويذهب دون أن يعرف أنه أتى أو ذهب. وهو لا يأتي لغاية ولا يذهب لغاية وهذا هو لب المشكلة. فَلَو وعى الزمن بوجوده لتغير كل شيء.
في المقابل يعي الإنسان الغاية من وجوده ويعي أن توقفه عن الولادة والموت المتكررين يوقفان الزمن. يشقى الإنسان في ميلاده وموته من أجل أن يستمر الزمن ويتواصل. إن الذي يخلق الزمن هو الإنسان وهو الذي يوقفه متى شاء. الموت عملية واعية، وهو اللحظة التي يرغب فيها الإنسان في أن يوقف الزمن. لا زمن خارجنا وخارج ما نعيه.
العرب اللندنية