الحياة الانفعالية… لماذا نسمح أحيانا بأن تكون حياتنا رد فعل على حياة أخرى؟* لمياء المقدم
النشرة الدولية –
لا أدري الأسباب التي تدفعنا باتجاه مراجعة أنفسنا وحياتنا. في الغالب هي دوافع ورغبات داخلية أو ردود أفعال على أشياء تحدث لنا. لكن الشيء الذي كثيرا ما استوقفني وشغل تفكيري هو: لماذا نسمح أحيانا بأن تكون حياتنا رد فعل على حياة أخرى؟ ظلا لها؟ لماذا نتصرّف وفق رفضنا أو قبولنا لأفعال الآخرين من حولنا بدل من أن تكون أفعالنا أصيلة نابعة من حاجة شخصية بحتة.
مؤكد أن البشر يعيشون في تفاعل مستمر مع بعضهم البعض، وأن العلاقات الإنسانية محكومة بجدلية الفعل ورد الفعل بالضرورة، ولكن ما أقصده هو: كيف نحمي حياتنا وقراراتنا من تأثير الآخرين فلا تصبح أفعالنا مجرد انفعال دائم.
في صغري تعرّضت لخيانة الحبيب. تركني من دون سابق إنذار بعد علاقة حب قوية وغادر إلى المهجر. كنت ما أزال يافعة ولم أحتمل الصدمة، فانهرت بالكامل، تركت الدراسة وأنا في سنة التخرّج ومرضت لزمن ليس بقصير، ثم ركّزت كل جهدي على الانتقام منه، وجاء هذا الانتقام على شكل السفر-أيضا- إلى أوروبا، حيث أقيم الآن منذ أكثر من 20 عاما.
ومازلت كلّما عُدت إلى البلد ومشيت في شوارعها التي بكيت فيها كثيرا بعد علمي بمغادرته، أتساءل بيني وبين نفسي، ماذا لو أنني لم أردّ الفعل على هذه الحادثة المؤلمة وبقيت هنا، كيف كانت حياتي ستكون؟
الأقسى من ذلك، هو السؤال الذي يأتي بعد ذلك مباشرة: هل كل حياتي في أوروبا، دراستي وزواجي وإنجابي للطفلين، مجرد رد فعل على حادثة محزنة كهذه؟
أتمنى أحيانا لو أن حياتي كانت أكثر أصالة، مبنية على الفعل أكثر ممّا هي مبنية على رد الفعل، لو أنني لم أسافر انتقاما من أحدهم، وأتزوج لأن لا شيء آخر أفعله في الغربة، واُنجب الطفلين لأنني لا أريد أن أكون وحيدة، وأدرس بلا توقف حتى هذه السن المتقدمة، لأصالح أمي الميتة وأعوّضها عن الألم الذي سببته لها بتوقفي عن الدراسة في سنة التخرّج.
لا مفرّ من رد الفعل، في النهاية، فنحن بشر، وليس بوسعنا سوى أن نكون مرآة تعكس ما يصلنا من الخارج، كما أن بعضنا أكثر حساسية وهشاشة من أن يتعامل مع العالم بوصفه حجرا. ومع هذا، أحزن مرات لأنني لم أختر الحياة التي أردتها بنفسي بل التي اختارها لي الآخرون. ورغم أنني لاحقا ناضلت كثيرا من أجل استعادة خيوطها في يدي، وقد أكون فلحت إلى حد كبير، إلا أن شيئا ظل بعيدا ومرّا طول الوقت.
رأيت كثيرين مثلي في كل مكان، بل وربما أكثر هشاشة وانفعالا مني، وتمنيت دائما لو أنهم يتحلّون ببعض الحكمة والتروّي، فما يأتي اليوم على شكل انفعال عابر، يتحوّل مع الوقت إلى حياة انفعالية.
والحقيقة أن تلك اللحظة التي غضبتُ وثرتُ وانفعلت فيها تصبح ركيزة أساسية لحياتك والعمود الذي يرفعها، والذي بانهياره ينهار كل شيء. ستضطر أن تظل غاضبا مدى الحياة ليظل العمود واقفا، وإلا ما تفسيرك لكل ما حدث بعد ذلك، كيف تبرّره وتمنحه شرعية الوجود؟
أفزع أحيانا من مجرد التفكير بذهاب هذا الغضب، كيف أفسّر حياتي بعده، سفري وزواجي وإنجاب الطفلين؟ من هؤلاء أصلا لولا ذلك الغضب؟
كلما ذهبت إلى مدينتي، ومشيت فيها وحدي، قلقت. أقلق من لحظة وعي مفاجئة أَجِدُ فيها نفسي وجها لوجه مع الفتاة التي كنتها قبل الغضب وردود أفعاله. أخاف أن ألتقيها في أحد الشوارع تتمشى مع أصدقاء دراستها أو بمفردها، أن أتعرّف عليها وتتعرّف عليّ، أن نجلس ونتكلم ونتصالح، وينتهي كل شيء… ما الذي سأفعله بالعمر الذي ذهب ساعتها؟ يا الله! أتمنى أن لا يحدث هذا أبدا.
العرب اللندنية