الإيطاليون يحتفون في فلورنسا بحفيد ليوناردو دا فينتشي
النشرة الدولية –
إذا ما كان العالم الرياضي الإيطالي ليوناردو فيبوناتشي قد أطلق جناح العالم في القرن الثالث عشر نحو المستقبل عندما حمل الأرقام العربية من بجياية الجزائرية إلى بيزا الإيطالية ومنها انتشرت، بعُسر كبير، في جميع أنحاء أوروبا لتفتح آفاقا جديدة وواسعة للعلوم والمعارف، فقد سجّل عالم إيطالي آخر في القرن العشرين، حاضر العالم، مانحا العالم، باختراعه الشريحة الكومبيوتريّة «المايكرو تشيب»، وسيلة للتطوّر المتواصل والمتواتر، وموفّرا، منذ نهاية ستينات القرن الماضي، القدرة على إنجاز خطوات عملاقة في إطلاق علوم الحاسوب واستخداماته، محوّلا الكمبيوتر من مبانٍ ضخمة إلى عُلبة صغيرة سهلة التنقّل وقابلة للتطوير المتواصل، وصولا إلى اختراع الـ«الشاشة الملموسة» (Touch Screen) التي لم يَعُدْ هناك في العالم من يستغني عنها في أيّ لحظة من لحظات حياتنا.
إنّه الإيطالي فيديريكو فاجّين، المولود في مدينة فيتشينسا الإيطالية (قرب فينيسيا) في عام 1941 وانتقل إلى «السيليكون فالّي» بالولايات المتّحدة في عام 1968.
يروي فيديريكو فاجّين تجربته الحياتيّة وسيرته في كتاب صدر مؤخرا عن دار نشر «موندادوري» الإيطالية الشهيرة وقُدّم يوم الثامن عشر من يونيو في حفلٍ مهيب في أعرق مسرح أوروبي «مسرح لا بيرغولا» الفلورنسي المُؤسّس في عام 1656. وقد أسهمت إدارة المسرح بتنظيمه بالتعاون مع مؤسسة «جائزة غالِيلَيو غاليِلَيْ»، التي كان فاجّين قد نالها في عام 2006.
يروي فيديريكو فاجّين في الكتاب مراحل حياته الأربع، ابتداء من طفولته، وعن أعماله الأولى، عن خلافاته مع شركة «إنتيل» حول أبوّته لاختراخ «المايكرو تشيب»، وصولا إلى القناعة المُطلقة بالتزامه العميق في البحث العلمي عن الوعي.
يقول فاجّين “لقد وفّرت لي عملية كتابة سيرتي الذاتّية أن أعيش ثانية جميع التجارب ذات الأهمّية في حياتي، كما أتاحت لي فرصة التفكير وإعادة النظر في الدور الذي امتلكه بعض الأشخاص في حياتي ومساري. وبذلك أدركت بأنّني لم أتعلّم فقط من الأشخاص الذين أحبّوني فعلا، بل أيضا من أولئك الذين حاولوا تعطيل مساري وعرقلته”.
أربع حيوات ملآى بالنجاحات والإخفاقات، بالاختراعات والتحوّلات، بالأصدقاء والخصوم، وهي حيوات يسير فاجّين عبرها خطوة إثر أخرى ويُثريها بطرائف تخصّ حياته الخاصّة والعائليّة، وبتحليلات حول التقنيّات التي اخترعها.
“لقد وُلدت، مُجدّدا، في كلّ مرّة لأعيش حياة جديدة”، يقول فاجّين “لأُراقب وأُلاحظ العالم من نقاط مراقبة لا ريب فيها، فيما كان ذهني قد اتّسع ليحوي تكثيفا إضافيا آخر للمعارف”، ويواصل قوله “لقد وُلدتُّ مرّة أخرى في اللحظة التي أحجمت فيها عن الاكتفاء بإحكام المنطق لوحده، وأصغيت إلى نداء الفَراسة وانفتحت أمام الأسرار”.
واليوم، مضى فاجّين ليؤسس من جديد برفقة زوجته مؤسّسة «فيدريكو وإيلفي فاجين» (Federico and Elvi Faggin) التي تعمل في إطار تأكيد وجود الوعي، أو بالأحرى ما يُسمّيه هو نفسه بـ«العالم الذي يُراقب ذاته».
يقول فاجّين “إنّ ما يحدثُ لي هو أمرٌ استثنائي بحق، ولست الأول في هذا الإطار ولن أكون الأخير، وقد أدركه الصوفّيون قبل العلماء وأكثر منهم، وقد حدث ذلك فقط لأنّ هؤلاء، أي العلماء، ابتدأوا بصبّ انتباههم وتركيز اهتمامهم على المكائن والأدوات، مُقتنعين بأنّ العالم الذي في داخلنا هو ما يُحدّد مسارات العالم الذي يقع خارجنا. وتبتدئ مأساتنا في اللحظة التي نُقنع فيها أنفسنا بأنّنا لسنا إلّا مكائن، إذّاك، سيؤول بنا الأمر إلى أن نُصبح مكائن حقا، وسنختزل الكون في معادلات حسابيّة دونما أيّ مغزى أو كُنه”.
تولّى فيديريكو فاجّين إدارة وتخطيط أول مشروع للـ«إنتيل 4004»، وهو المايكرو بروسّيسور الأول في العالم، وطوّر تكنولوجيا «MOS» ذات بوابّة السيليكون، والتي أتاحت إنتاج الشرائح الأولى من «مايكرو بروسّيسور» وذاكرتي «EFROM» و«RAM» الديناميكيّتين، وشرائح الاستشعار المسمّاة «CCD»، وصارت جميع هذه المخترعات مفردات هامّة في رقمنة المعلوماتيّة
أسّس في عام 1974 شركة «زيلوغ» (Zilog) التي أنجز من خلالها المايكرو بروسّيسور الذي حمل اسم «Z80» الذي يتواصل إنتاجه حتى الساعة.
وفي عام 1986 كان من بين مؤسّسي شركة«Synaptics»، وهي الشركة التي طوّرت أولى إنتاجات «الشاشة الملموسة» (Touch Screen).
في عام 2010 سلّمه الرئيس الأميركي باراك أوباما الميداليّة الوطنيّة للتطوير والاختراع، وذلك لاختراعه الـ«مايكرو بروسيسّور». أسّس في عام 2011 برفقة زوجته مؤسّسة «فيدريكو وإيلفي فاجين» (Federico and Elvi Faggin)، وهي منظمة غير ربحيّة تُعنى بالبحث العلمي في إطار الوعي، وهي الإطار الذي يُموّل من خلاله برامج البحث النظري والتطبيقي في عدد من الجامعات ومعاهد البحث في الولايات المتّحدة.
فاجّين، المولود في مدينة فيتشينسا الإيطالية، يُعتبر اليوم الصنو الإيطالي للراحل ستيف جوبس، وهو النموذج الذي يُحتذى به من قبل العلماء والخبراء العاملين في أُطر التكنولوجيات في العالم. وقد أسهم، بعد انتقاله إلى «سيليكون فالّي» في الولايات المتّحدة، في اختراع الـ«مايكور تشيب» و«الشاشة الملموسة» مُحقّقا إعادة صياغة الحاضر على الشاكلة التي نعرفها اليوم ونتعامل معها في كلّ لحظة من لحظات حياتنا. ويُعتبر فاجّين اليوم الفارس الأول في إطار البحث العلمي في مجال الوعي.
«اليقظة الروحيّة هي الأمر الأكثر جوهريّة في حياة الإنسان، وهي المُرتجى الوحيد في كينونته…» هكذا تكلم جبران خليل جبران.
“كنت، حين بلغت الأربعين، قد قبلتُ بشكلٍ كامل بالرؤية المادّيّة للكون، وكنت قد استخلصت بأن لعبة الحياة تبلغ نهايتها عندما يموت الجسد، لأنّني كنت أعتبر الوعي مُلكا للجسد، ولذا فعندما يُنهي هذا الأخير وجوده، فإنّه على الوعي أن يرحل هو الآخر بدوره. كنت أقول لنفسي، واثقا، بأنّ هذا هو الواقع. وهو في غاية البساطة والوضوح، ولا وجود لأيّ إِشكالٍ آخر. كنت أتعامل مع الأمور على تلك الشاكلة دون إدراكٍ منّي بأنّني انْسَقْت، بعماء، وراء فكرة المادّية المُطلقة للوجود…”.
لكن! وفي المنتصف من المسار! يقول دانتي أليغيري في النشيد الأول من “فصل الجحيم” في “الكوميديا الإلهيّة” «… وفي المنتصف من مسار الحياة، وَجَدْتُني في غابة مُظلمة…»…
ففي منتصف الثمانينات من القرن الماضي، وبعد النجاحات التي حقّقتها في حقل التكنولوجيا والأعمال.. وكانت لديّ من الإمكانيات الاقتصادية والماليّة ما يكفيني بأن أعيش برفاهٍ ورخاء…
في تلك الفترة بالذات أدركت، وأنا في قمّة النجاح والشهرة، بوعي من افتقاد الرّضا عن الذات كامنا في داخلي، أو بالأحرى أدركت بأنّي حزينٌ للغاية. كنت، في تلك الفترة، أسعى جاهدا إلى إخفاء ذلك الحزن، وأذود عن نفسي دون اختبار لحظات الشعور بالتعاسة. كنت أعيشُ مُحصّنا لأحمي نفسي من أكثر أحاسيسي عُمقا، مُتظاهرا بكوني سعيدا…»