“أين تهرب يا وطني، من لعنة الدم”* هدى مرمر
النشرة الدولية –
تبني ريما بالي روايتها على أنقاض الحروب الدمويّة بين الأخوة في الوطن الواحد والبيت الواحد. ترتكز على حكايتَين لامرأتين مختلفتَي الخيارات والمصير:
- جان دارك: رمز طفولتها، تمثالها المهيب يتوسّط باحة المدرسة ويفتن ندى الطفلة والمراهقة؛ لكنّ نبيل يرى فيها جنونًا ويستخفّ بنضالها كما استخفّ العديد بدون كيشوت وهو يطارد طواحينه.
- المرأة التي حلُمَت بالفستان الأزرق: قصّة “الموسم الأزرق” التي حكتها أمّ ندى لها عن امرأةٍ ظلّت تنتظر أن يهديها زوجها فستانًا أزرق حتى أقبل خريف عمرها وفقد حلمها بريقه.
“إذا كانت هذه البلاد التي تفتَّت أجدادنا في ترابها، وأنضجت عظامنا شمسُها ليست لنا، فأيُّ بقعة من بقاع الأرض إذً هي لنا؟!”
انطلاقًا من الحكايتَين أعلاه، تستخدم الكاتبة رموز اللون الأزرق والشمس مع زهور عبّادها وساعة الذئاب لتُذيب أحداث روايتها وشخصيّاتها وكوابيسهم في قالبٍ روائيٍّ محكم لا يحيد عن ثيماته المحوريّة بل يعبّر عنها بفرادة ودقّة سيمفونيّة أوركيستراليّة يعزفها لاجئون على شفير الموت.
“ساعة الذئاب (الخامسة إلّا ربع صباحًا) يشتدّ عواء الذئاب فيها ويمزّق سكون الليل، ويكون الإنسان النائم معرّضًا للمسّ الشيطانيّ،..”
“حقول صفراء تمتدّ حتّى الأفق، تتعبّد فيها ألوفٌ من زهرات عبّاد الشمس شمسهنّ المغرورة التي تراقصهنّ بخبث طوال النهار لتتركهنّ ليلًا دائخات خائبات، منكفئات بوهن، راخيات الرقاب نحو تراب حزين.”
نساءٌ من عدّة خلفيّاتٍ هنّ عابدات لشمس المحبوب الذي يخيّبهنّ ويسحق آمالهنّ فيتشبّثن بطفلٍ من صلبه علّ الغد يبتسم لهنّ من محيّاه البريء، علّه يعوّض خساراتهنّ ويضفي بصيصًا من وهج معنًى ولو زائفًا كغيمة صيفٍ أزرق عابرة في سماء حياةٍ برماديّةٍ الرصاص.
“لم أكن أجرؤ أبدًا على مخالفته. كنت أقتنع غالبًا بكلّ ما يقوله، وحين كنت أشكّ في مرّات نادرة في وجهة نظره، كنت أصمت وأحتفظ بشكوكي لنفسي، إذ لم أكن أحبّ أن أجرح كبرياء رَجُلي الصغير.”
تتعدّى الكاتبة الكلام عن الحبّ وتوأم الرّوح والصديق الطفوليّ الأزليّ لتتحدّث عن العلاقة الانصهاريّة الضارّة التي تمحي هويّة عاشقٍ وتمنح الآخر السلطة الديكتاتوريّة.
“صار اسمه هويّتي..”
“لقد كنت أعرف دائمًا أنّه يمثّل، لكنّني لم أطلب منه يومًا أن يخلع القناع.”
وإن كانت لهذه العلاقة رمزيّةً في غمز النظام الديكتاتوريّ في البلاد ومصادرة الحكم لأحلام المواطنين ونعتهم بالجنون والجنوح بل وإرهاق دمهم إن اعترضوا، لكنّ أهميّتها تتركّز في محاور ثيمات التوأمة والحبّ والخضوع والمواطنة والموت التي تتكرّر في علاقة إيفا ومارتا ببابلو، وتتطوّر في علاقة ندى مع بوريس الذي يبدو توأمًا لغدي، وتشبه إلى حدّ ما قضيّتَي الحربين السوريّة والأوكرانيّة تحت مسمًّى أسمى للحبّ.
“كنتُ أشعر بأنّ قصّتهما التي انتهت بالانفصال وموت الطفل وغياب الغد، هي انعكاسٌ لقصّتي وقصّة شعبي الذي مزّقته الحرب، ورؤية مختلفة لها.”
في مناشدتها الحريّة والنسيان، تبحث ندى عن وتهرب من عيون ابنها الذي ارتفع إلى السماء كنسخةٍ عصريّةٍ من جان دارك. أمّا ندى، فبقيت ما بين بين، تتمزّق في حالةٍ انتقاليّة تتمرّد فيها على نبيل وماضيها، دون أن تصبح جان دارك تامّة وإن طاردت قصّة إيفا ومارتا في شوارع إسبانيا مع دون كيشوت. فهل تنتظر من يهبها فستانها الأزرق أم تخيط ثوبها الأزرق الخاصّ؟
“عندما كان حيًّا، كنت أتخلّى لأجله عن مواسمي وأخبّىء محصول حقولي في مخازنه. أمّا الآن، فهل تُراني ارتكبتُ ذنبًا إذ تمتّعتُ بنفسي بموسمي الأزرق؟”
أحببت الرواية وأعجبني تكشّف الحقائق والذكريات تباعًا، كما التقسيم المريح والممنهج للفصول، الأمر الذي أضاف متعةً خلال قراءتي الرواية. أعجبتني الكثير من الاقتباسات. مأخذي على الرواية هو النهاية غير الحاسمة التي أبقت على مصير ثلاث علاقاتٍ معلّقًا: ندى مع نفسها، ندى وبوريس، ندى ونبيل. أدري بأنّ هذه النهاية تعكس الكابوس الذي تعيش به البلاد في ظل الحرب، والذي لا مناص منه، لكنّها حدّت من تطوّر شخصيّة ندى فكانت نهايةً مخيّبةً.