كيف تتحول إلى غزال أو شجرة* لمياء المقدم

النشرة الدولية –

أفكر أن الإنسان ولد إنسانا ليس ليظل كذلك، بل ليتحول إلى أي شيء يريده. ليس بوسع شجرة أو غزالة أن تصبح امرأة. ولكن يمكن لامرأة أن تصبح شجرة أو غزالة. يتطلب الأمر قليلا من الانفتاح وقليلا من الخيال والمحبة.

ينشغل الإنسان بما في داخله فيشعر على الدوام كأن أحدا يرافقه، يكلمه، يتحرك معه، ويتمرد عليه أحيانا. البعض يشعرون أنهم أكثر من شخص. ثلاثة أو أربعة، يذهبون ويأتون ويتحركون في نفس الوقت. هؤلاء هم الغارقون في أنفسهم، المنشقون عنها حتى أنهم صاروا كثيرين.

لكن من يستطيع أن يخرج من نفسه سيتحول إلى أي شيء يريد. إذا دخلت قلب شجرة وتجولت فيه ولامست أحلامها ومخاوفها ستجد نفسك تبكي وتضحك كأنك شجرة، وإذا وثقت بالغزالة ونظرت في عينيها طويلا ستجري وتتعثر كأنك غزالة.

يمتلئ الإنسان بنفسه فلا يجد مكانا لشيء آخر داخله، وقد يفيض عنها كما قلنا، فيتعدد الكائن ويتكاثر كجرثومة. يجب أن يترك الإنسان مكانا كبيرا للعالم داخله، عليه ألا يفوت شيئا وأن يكون مثل البوابة التي يعبر منها كل شيء باتجاه هدفه. يرى الأطفال والكبار والمباني والنَّاس والشمس كأنه بوابة مدينة ضخمة، تفتح أبوابها كل صباح لتستقبل الوافدين.

عندما تجد نفسك مرافقا على الدوام بشريكك الآخر، تأكل فيأكل معك، تنام فينام جنبك، تتبول فيلاحقك إلى الحمام، عليك أن تدرك ساعتها أنك غارق في نفسك أكثر مما يجب، في تمجيدها أو في تحقيرها، في ترفيعها أو في الحط منها، وربما في مواساتها وحل مشاكلها التي لا تنتهي. يصعب على العالم أن يجدك في هذه الحالة، وسيظل يدور من حولك بينما تدور أنت في كوكبك، إلى أن تصبحا كوكبين متحاذيين لا يتلامسان أبدا.

يأتي العالم من تحت الجلد، وهو لا يأتي لمن يشغل نفسه عنه بالتكالب على شيء ما أو بالجري الدائم وراء هدف محدد، يسلبه قدرته على الحياة ويحيله إلى عبد

أحرص دائما على أن أكون في قلب العالم وليس خارجه. إذا دخلت العالم دخلك، وإذا لمست قلبه منحك كل شيء. وهي عملية سهلة جدا، ولا تتطلب منك سوى الإحساس بما حولك، ليس بوصفه كائنا منفصلا بل بوصفه انعكاسا لك.

إذا وجدت البيت مهملا، متراكما، يمتلئ بالكراكيب والفوضى، ولا يترتب مهما فعلت، فهذا لأنك متعب ومرتبك، لأن التفاصيل الصغيرة داخلك تأخذ منك وقتا وجهدا لترتيبها، تتناثر في كل مكان من قلبك وتسبب الفوضى والأرق. إذا سامحت أحدا آذاك، ارتفع الغبار من الجدران والأفرشة والأغطية، وذهب فتات الخبز المتناثر في إرجاء المطبخ بلا رجعة. وإذا نجحت في استعادة أحلامك وأمانيك وتطلعاتك، فتحت نافذة في البيت لتدخل الشمس.. وستدخل لتضيء كل شيء.

إذا منحت عطفك واهتمامك لمن حولك، انتشرت الورود والأزهار والنباتات الخضراء في كل ركن، ستراها بعينيك وتشم رائحتها. وطبعا، جميعنا يعرف أن لا وجود لبيت ولا لنوافذه، ولا لنباتات أو رائحتها إلا في وجود الكائن الذي يشاركنا ذلك بخفة ومحبة.

يأتي العالم من تحت الجلد، وهو لا يأتي لمن يشغل نفسه عنه بالتكالب على شيء ما أو بالجري الدائم وراء هدف محدد، يسلبه قدرته على الحياة ويحيله إلى عبد. أسوأ ما يمكن أن يصل إليه بشر هو أن يصبح عبدا لمطامع أو لمال أو لسلطة أو لعمل أو لغيره أو لنفسه، وبدلا من أن يخضر كشجرة ويقفز كغزال حر تجده صندوقا مغلقا ومدفونا في ركن مظلم، أو كرسيا مهترئا يهتز جيئة وذهابا، يهدهد الفراغ بلا توقف.

العرب اللندنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى