شبكات التواصل الزرقاء: بحار تُغرق ثوراتها* ميموزا العراوي
النشرة الدولية –
أثارت صورة فوتوغرافية لمهاجر مكسيكي غريق وابنته البالغة عامين إعصارا على شبكات التواصل الاجتماعي بعد أن أحدثت موجة غضب عارمة في السلفادور والمكسيك.
وأشار الخبر الصحافي المرافق لها إلى أنهما غرقا أثناء محاولتهما عبور نهر ريو غراندي من المكسيك نحو الولايات المتحدة، وأظهرت الصورة المأخوذة من عدة جوانب الأب يحمل طفلته داخل قميصه الرث محاولا حمايتها من الغرق. وأضاف الخبر أن التيارات العنيفة والسريعة أغرقتهما أمام نظرات الوالدة البالغة من العمر واحدا وعشرين عاما.
التقطت الصورة الصحافية جوليا لو دوك لتنشرها صحيفة مكسيكية مُظهرة الأهوال التي يتعرض لها كل من حاول الهجرة غير الشرعية، ليس فقط إلى الولايات المتحدة بل إلى كل شاطئ آخر قد يكون بداية جديدة لحياة أقل قسوة من تلك التي سبقتها.
ولم تمض أيام على نشر هذه الصورة في الصحيفة حتى سارع فنان الكاريكاتير المكسيكي جوزي أنطونيو رودريغز غارسيا في رسم المشهد المأساوي بأسلوب مؤثر ضاعف من انتشار الصورة/ الحدث على شبكات التواصل الاجتماعي، جاعلا منها أيقونة تمثل كل مهاجر غير شرعي على الأرض نحو بلاد أخرى هربا من الحرب أو الفقر الشديد.
الكثير من الفنانين العرب تعرضوا إلى انتقادات كثيرة من قبيل أن رسوماتهم تعد استغلالية ابتغت الشهرة على ظهر المآسي البشرية
وقد ذكر الفنان في إحدى مقابلاته الصحافية أنه يعيش في المكسيك مع أولاده الثلاثة ويتفرغ لرصد الحوادث العالمية والإنسانية التي بإمكانها أن تختصر مآسي أكثر من شعب وشعب. والأهم من ذلك أنه ذكر الدور الأكبر لشبكات التواصل الاجتماعي التي سمحت له بأن ينشر رسوماته مواكبة للحوادث على اختلاف مواقعها في العالم وبسهولة وبسرعة كبيرة ليراها الجميع.
بالطبع لم يكن هذا الرسم الذي أنجز بسرعة واضحة أول وآخر صورة تصور مأساة إنسانية ترمز إلى شعب بأكمله، وقد فاضت الرسومات التي تجسد المآسي التي تعرّض لها الشعب السوري (من بين شعوب أخرى) في رحلات هربه الخطرة والمميتة غالبا نحو شواطئ أوروبية رحبت به حينا وضاعفت من مآسيه حينا آخر. أما الفنانون الذين جسدوا هذه الفواجع في أعمالهم السريعة، وربما بسرعة انتشارها على شبكات التواصل لم يكونوا فقط سوريين أو عربا، بل أجانب ومن بلاد بعيدة عن المنطقة ظلوا على تماس مع ما يحدث في العالم بتفاعل والتحام كما الأمواج في بحر واحد.
غير أن الكثير من الفنانين العرب تعرضوا إلى انتقادات كثيرة من قبيل أنها رسومات استغلالية ابتغت الشهرة على ظهر المآسي البشرية، حتى أن بعض الأعمال الفنية التي استغرقت شهورا وسنوات لإنجازها لم تسلم من تلك الانتقادات.
من هؤلاء نذكر على سبيل المثال وليس الحصر بعض أعمال الفنان السوري محمد خياطة الذي أبدع أعمالا رائعة ببساطتها وفنيتها عن أهوال البحر والمهاجرين السوريين. ونذكر من تلك اللوحات تلك التي عنونها بـ“بحر إيجه”، البحر ذي الوجه البشري في إشارة إلى الغرقى الذين قضوا في موجات الهجرة في مياه البحر المتوسط وبحر إيجه.
وأرفق الفنان المعرض الذي عرض فيه هذا العمل بهذه الكلمات الصادقة والمباشرة “عن أخي الذي ملأ قاربا بجسده، ومضى بعيدا باحثا عن أمل جديد وسط الحيتان”، ونذكر أيضا عملا تجهيزيا له معنون بـ“الهجرة” ويتكوّن من قوارب رمادية ركّبها فوق بعضها البعض ليربطها بخيطان دقيقة ترفعها في الهواء رافعة معها زورقا مفردا وحيدا، وصفه محمد خياطة بأنه “قارب فردي في وحدته أمام قوارب الجماعة”.
الأمر الذي يطرح ذاته الآن وبقوة، لا يتعلق بتحديد إن كانت تلك الصور/ الرسومات أو اللوحات انتهازية أم لا، بل يتعلق بالتساؤل حول مدى فاعلية شبكات التواصل الاجتماعي وقدرتها على أن تكون الوسيلة والمضمون في آن واحد لـ“واقعية اجتماعية” جديدة، سليلة الواقعية الاجتماعية التي انتشرت في القرن التاسع عشر. ونخص بالذكر تلك الأعمال الفنية المنفذة سريعا وعلى نار حامية لضخها في شبكات التواصل، لأجل تحريك وجدان الرأي العام نحو تبديل الواقع على النحو الذي ساهم فيه سابقا تيار “الواقعية الاجتماعية” في إحداث تغيير على الأرض من ناحية الوعي العام والإصلاح.
وتبقى أسئلة كثيرة تحتاج دراسات موسعة حول طبيعة العلاقة ما بين الإعلام والصراعات، وما بين الفن والسياسة، وأيضا ما بين الفرد والجماعة.
ولعل أهم الأسئلة هي تلك المرافقة لطبيعة آليات التحرك ومنها: هل النشر/ التحرك الفني السريع والكثيف على شبكات التواصل يسحب من ردات فعل مشاهدي وصُناع الأعمال الفنية على السواء عصبها الثوري ليجعلها مجرد تحركات هدفها إبداء التضامن من جهة، أو الحصول على “اللايكات” السريعة من جهة أخرى على شبكات مهيمنة افتراضيا كالفيسبوك والإنستغرام؟ وهل تنتج هذه التحركات الفنية الوليدة تحركا اجتماعيا كسولا تنتهي مدة صلاحيته عند اللحظة التي يُضغط فيها على زر “الإعجاب” أو “الشير”، أي المشاركة؟ هل استحدثت شبكات التواصل تحركات فنية هي أمواج تفور وتتكسر في لحظات كما أمواج البحر لتغوص من جديد إلى وفي أعماق اللاوعي الإنساني المظلمة؟
العرب الدولية