السيرك* ميموزا العراوي
النشرة الدولية –
على هامش العرض الفني المُتكرر للكثير من الفنانين التشكيلين وعلى شبه غفلة مقصودة أو غير مقصودة من أرباب الساحة الفنية، ينمو فن الرسام اللبناني الرائع محمد سعد بواقعية فظة تطال معظم الشخصيات السياسية وبعض الوجوه الإعلامية والفنية اللبنانية صانعة منهم، أي السياسيين، أقانيم صامدة بوجه أي تغيير لا بد أن يتمناه كل لبناني اجترع كأس المرارة والرياء حتى الثمالة.
يقول الفنان في إحدى المُقابلات إن مشاهدي لوحاته يبالغون في الاسترسال في تأويلها وأن بعضهم يجد فيها معانيَ لم يقصدها البتة.
قد يجد البعض في كلامه هذا ما يروي “حشريتهم” أو يكمّها، ولكن البعض الآخر سيعثر في كلامه على إشارة، لا بل إشارات تؤكد أن الفنان محمد سعد داخل في صميم “اللعبة” إلى أقصى حد.. لعبة رجال السياسة.
ذكاء واضح يحميه من أي تهجّمات أو تهديدات قد تودي بحياته، لا سمح الله، فما “يطاله” محمد سعد في لوحاته هو شخصيات تتحكم بأعناق الشعب ويدها تطول كلما وكيفما تشاء وما من أحد ليمنعها عن ذلك، حين ندرك ذكاء، لا بل فطنة سعد نستطيع عندها أن نستمتع بلوحات الفنان وببراعته وبرؤيته ووحدة نظرته وحسن استعماله “لأسلحة فتاكة” كالترميز والتشبيه والتمويه، وهي أسلحة تقيه نار جهنم الآخرين الذين كان لهم النصيب في أن يظهروا في لوحاته وهم كثر.
وتذكّر لوحات الفنان بنظيره الفنان الأميركي أليكس غروس الذي انتقد وينتقد المجتمع الاستهلاكي والديجيتالي، ويفضح الديمقراطية المزيّفة ودعوات التحابب والتسامح الكاذبة.
ألوان محمد سعد كألوان أليكس غروس لناحية فجاجتها، وشخصياته تشبه شخصيات الفنان الأميركي لناحية واقعيتها ولجهة نصاعة ملامحها وتعابير وجوهها التي تنحو إلى الكاريكاتيرية دون أن تكونها البتة.
“اللعبة” يبرع فيها الفنان الموهوب جدا. فهو يرسم شخصية في موقف ما، فيسارع من رآها إلى الاستنتاج بأنها تعبر عن رأي الفنان الشخصي وميوله السياسية المُناهضة أو الداعمة له. وما يكاد مُتلقي لوحته يقتنع بما رآه حتى يبادر الفنان إلى إخراج لوحة أخرى من “قبّعته” السحرية/ الفنية تدين أو تشكك في أمر الشخصية التي رسمها في لوحته السابقة، وهلم جرّة.. حتى يعمّ الجنون ليتماهى مع وضع البلد العام وشعبه.
وهكذا وضمن هذا الجو الغامر تتطاير شخصياته في فضاء اللوحات وترقص وتدور وتخف وتستخف بما حولها وتتلاقى مع شخصيات إعلامية عرف عنها أنها “طليقة اللسان” وفنانين مشهورين بعظمتهم أو بالعكس، ويتساوى الكل بالكل في حماوة جهنمية تقبض على قلب المُشاهد حتى لو شحنها الفنان بزرقة هادئة، زرقة كاذبة ومراوغة.
تقلبات الفنان والمُلابسات التي يدسها هنا وهناك في لوحاته ليست بالبراءة التي يريدنا أن نراها، وهي تقلبات تضم فظاظة خام تصدح واقعيتها بخامات لونية لا تتحمل التدرّجات، ولكنها تعرف حين يريد محمد سعد أن تنهال في عتمة مُلتبسة تخفي ملامح ونظرات شخوص اللوحات جاعلة منهم لصوصا أو سحرة، أو مُرتزقة أو قتلة قادرين على النفاذ بجرائمهم.
أما إذا ظهر أحدهم في لوحة يبدو فيها وكأنه بطل مُخلص، هتك بسره الأسود ابتسامته الفاقعة أو ضحكته المزلزلة التي تبدو في الأغلبية الساحقة للوحاته ابتسامات مُلفقة وصفراء، وتخفي سموما آتية لم يحن وقتها بعد.
إنه السيرك وقد اتسعت حدوده لتشمل الوطن، هذا ما يرسمه الفنان اللبناني محمد سعد ولا تحتمل هذه الحقيقة أي تأويل، يرسم الفنان ذاته في العديد من تلك اللوحات مُتفرجا مأساويا على ما يجري في أرجاء لوحاته، ولمَ لا وقد أخذ سعد على عاتقه الانغماس في عالم شخصياته الجهنمية والمُطلقة.
العرب اللندنية