مُسنا أنت الآن وغدا: في أحوال تطبيق “فيس آب”* ميموزا العراوي
النشرة الدولية –
برز تطبيق ديجيتالي جديد نسبيا يسمى”فيس آب”، وقد نجح في أن يتيح لمستخدميه فرصة رؤية صورهم مُعدلة لتناسب مراحل الشيخوخة.
ومما لا شك فيه أن هذا التطبيق أدى للبشرية خدمة عندما وضع الإنسان، لاسيما المعاصر، أمام شيخوخته هو، فهو الذي اعتاد أن يبتذل مظاهر الشيخوخة عندما يراها في الآخر (وهو ضمنا يهابها لأنها مُدركته) لاعتبارها ضعفا يجب إخفاؤه.
ولم يسلم الفن التشكيلي قديما من هذه الرؤية التي تشوبها كآبة عميقة، رسم الفنانون التشكيليون كبار السن في معظم لوحاتهم للإشارة إلى هشاشة الحياة وإلى الملل العميق (الداء القاتل). وفي أحيان قليلة برز كبار السن في اللوحات كعناوين للوقار والحكمة.
بالعودة إلى تطبيق “فيس آب”، انطلاقا من الفن التشكيلي الذي صوّر الملامح البشرية وبدّلها مشحونة بالدلالات، وضع التطبيق الإنسان في مواجهة مختلفة مع “المعالم” الظاهرية للشيخوخة كبروز التجاعيد والشعر الأبيض ليضعه في مواجهة قوامها تماس مباشر مع ذاته (الأنا الأنانية)، وبالتالي مع مفهوم الشيخوخة وجدوى ومعنى إقصائها في مخابئ تسيء إليه كفرد شاب قبل أن تسيء إلى كبار السن.
ثمة فنانون يهتمون اليوم بإخراج المظاهر الجسدية للشيخوخة من شرنقة البشاعة ويلاقون أصداء إيجابية بالغة التأثير
ويعود هذا التطبيق “بالنفع” أيضا، لأن التماس لم يبق تماسا حميميا، فحسب مع ملامح “مُممكنة” مستقبليا، بل تماسا مع الآخرين عبر نشره لصورته المُعدّلة على صفحة التواصل، مما أدى إلى “تشجيع” الآخرين على وضع صورهم وهم ليسوا “في أفضل حالاتهم”.
صور وضعتهم على اختلاف ردات الفعل من ممازحة أو جارحة أمام سؤال بشري مُحق يرفض الكثيرون مجرد طرحه عن السبب المُقنع إنسانيا لجعل الإنسان يُرد في أواخر أيامه إلى أرذل العمر، وكيف أن لا تكون “معلومة” الموت المحتم كافية لكسر الإنسان (إن كان هذا هو الهدف) في جميع مراحل حياته وحتى في مرحلة الطفولة إن فقد أحدهم فردا من أهله.
كما ساهم هذا التطبيق في جعل معالم الشيخوخة أكثر قبولا في عصرنا الحالي المهووس بامحاء آثار الزمن والساعي إلى فرض معايير جمالية محددة، هي غالبا مستحيلة إلاّ عبر المرور بفيلترات الكاميرا أو عبر سوق حياة مهشمة أخبرتنا عنها عارضات الأزياء.
ومن نافلة القول إن المرأة هي الضحية الأولى لمجتمع خرج من رحمها، ليس لأنها الجنس الأضعف بل لأنها الأقوى بحكم الطبيعة والحياة، والخوف منها مفهوم، ولكن لا يشرع الجرائم التي ترتكب في حقها. وكم من نسوة ترعرعن في ظل أفكار مجتمعية شنيعة تحتم عليهنّ عدم ذكر عمرهنّ وكأنه آفة بغيضة.
ويمكن اعتبار هذا التطبيق من حيث خلخلته لـ”تابو” التقدم في السن منافع شبيهة بإدراج اللون الفضي للشعر في حقل الموضة وجعله آخر صيحة تبنته الكثير من النسوة الصغيرات كما الكبيرات في السن.
ليس من الغريب أن نجد الدراسات العلمية تنشط كثيرا في زمن الـ”فيس آب” عن معنى الشيخوخة، لاسيما من خلال منظار الآخر/المعاصر. وقد كُسرت إلى الآن قناعات قديمة لا يمكن إدراجها كلها في هذا المقال، ولكن يُمكن الإشارة إلى “خاصية الإبداع” التي جرى وصلها بسن الشباب فقط. وقدمت دراسات عديدة في هذا المجال ومن أبرزها ما قدمته العالمة النفسية لين هاشر، ما يؤكد أن الإبداع ليس محصورا بسن الشباب وأن المجتمع يلعب دورا “قاتلا” في جعله كذلك.
يكفي الالتفات إلى كلمة “عجائز”، من العجز، لكي تنفرد أمامنا سلسلة من التوصيفات المُعلبة والمُسبقة من بينها حتمية وجود الأمراض المُدمرة.
وذكرت لين هاشر “بدلا من اعتبار سن الـ65 سنا للتقاعد، من الأفضل اعتبارها استكمالا لمرحلة إبداعية باتت تتغذى من التجارب والمعارف التي راكمها الفرد ولوحها بنفحاته الابتكارية/الشخصية”.
من نافلة القول إن المرأة هي الضحية الأولى لمجتمع خرج من رحمها، ليس لأنها الجنس الأضعف بل لأنها الأقوى بحكم الطبيعة والحياة، والخوف منها مفهوم
وتجب الإشارة هنا إلى أن ما ذكرته لين هاشر ليس كتبديل تعبير “سن اليأس” بـ”سن الأمل”، فالتعبير الجديد يدين ذاته، أما كلا التعبيرين فقد أضاعا البوصلة تماما.
ومن منظار أيديولوجي حينما يُطرح تصوير الشيخوخة في الفن لا تطرح معه فقط أسئلة تتعلق بالهوية الشخصية والنظرة إلى الجسد، بل تطرح مسائل شائكة تتعلق بالسياسة والهوية الجنسية.
وتعقيبا على ذلك يجدر ذكر الثورة النسوية التي انطلقت في السبعينات وأنجبت فنانات كسرن نمطية النظرة الذكورية للمرأة التي جعلتها إما غرضا جنسيا أو صوّرتها في “أغبى” الحالات. وثمة فنانون يهتمون اليوم بإخراج المظاهر الجسدية للشيخوخة من شرنقة البشاعة ويلاقون أصداء إيجابية بالغة التأثير.
يأتي عالم الفن التشكيلي داعما لأقوال لين هاشر وغيرها من الأكاديميين، فأهم الأعمال هي التي أبدعها الفنانون في آخر سنوات حياتهم، نذكر منهم: رمبرندت، وتيتيان وترنر وجورجيا أوكيف ورونوار الذي التوت أصابعه من المرض فابتكر فُرَشا للرسم ليرسم نساءه الذهبيات في أكثر الحدائق إشراقا.
أما الفنان كلود موني الذي قدم أشهر أعماله في آخر أيام حياته بعد أن أصبح شبه أعمى فله كلمات مُكثفة ومقتضبة في مواجهة لشبابه وشيخوخته على حد السواء، تصف ماذا يعني أن تكون كهلا ومريضا ومشتعلا بالحياة في آن واحد.
وهو يقول “دعني أقل لك إن قدرتي على نسف الحدود بين الأشياء كان عليها أن تأخذ كل عمري كي تتحقق. إنها الحدود التي تُؤسفك لأنني لم أعد أستطيع رؤيتها. كان على عمري أن يمضي لأدرك أن ذاك الخط الذي كنت أسميه أفقا غير حقيقي وأن السماء والماء وكل عنصر في حلول واحد”.
صحيفة العرب