الخطاب الحجاجيّ في مجموعة “أكاذيب النّساء” للأديبة سناء الشعلان

النشرة الدولية –

أكدت د.سنـاء الشـعلان أنها سيطرت عليها فكرة عندما شرع تستجيب لدفقتها الشّعوريّة والفكريّة والإبداعيّة في كتابة “أكاذيب النّساء”؛ ولذلك سمحتُ لنفسها بأن تستخدم أيّ تجريب يخطر في باليها ما دام أنه يقودنها إلى هدفها الرّئيس، وهو تسجيل وثيقة إدانة لفساد الطّبقات النّخبويّة والمتنفّذة.

عن الكذب:

إنّ التّعريف الشّائع للكذب هو الإخبار عن الشّيء على خلاف ما هو عليه عمداً أو خطأ، والكذب يناقض الصّدق والحقيقة والواقع، ومترادفات الكذب عديدة: الخرص، والبهتان، والإفك، والافتراء، والخداع، والتّدليس، والحنث باليمن، وخلاف الوعد.. إلخ.

وعني الفلاسفة وعلماء الاجتماع والنّفسانيين ورجال اللاهوت والفقهاء بتفسير فعل الكذب  ونبذه وتجريمه؛ لأنّه قول يجافي الحقيقة مع العلم بها، واختلفوا حول السّهو، أو الخطأ، إلاّ إذا أصرّ المخطئ “الكاذب” عليه، وبعضهم ناقش كذب الخرافات من باب الاعتقاد والاقتناع والتّخيل، ولم يعدّوه كذباً؛ لأنّه لا يترك آثاراً على الآخرين، أو صنّفوها من الأكاذيب البيضاء التي أدانها “كانط” بشدة، بينما يقبلها الفيلسوف الإنكليزي “جيرمي بنثام” من باب أنّها غير ضارة.

إنّ أغلب الأديان تعدّ الكذب ومرادفاته من أسباب الفجور، وقد ذُكر الكذب في القرآن 250 مرة، وإنّ التّاريخ والتّاريخ السّياسيّ يعج بالكذب.

ويقترن الكذب بعدد من الجرائم، مثل: الغشّ، والنّصب، والحنث باليمين … ، وكلّ هذه الأفعال يحاسب القانون عليها ” والكذب يتخّذ طابعاً إنجازيّاً، وذلك؛ لأنّه يتّخذ في الوقت نفسه وعداً بقول الحقيقة وخيانة لذلك الوعد، وقدّم “جاك دريدا” في كتابه “تاريخ الكذب” أطروحات تحليليّة وتمهيدية “تمكّنت من بلورة جينالوجيا تفكيكيّة لمفهوم الكذب، هو التّساؤل حول إمكانيّة تشكيل تاريخ  خاصّ بالكذب من حيث هو كذلك، فهناك صعوبة لا يمكن تخيّلها إذ عزمنا على القيام بمشروع من هذا القبيل، وهي تكمن في ضرورة التّميز بين تاريخ الكذب، بوصفه مفهوماً وتاريخاً في حدّ ذاته، الأمر الذس يحيل إلى عوامل تاريخيّة وثقافيّة، ويساهم في بلورة الممارسات والأساليب والدّوافع التي تتعلّق بالكذب التي تختلف من حضارة لأخرى، بل إنّها تختلف حتى داخل  الحضارة  الواحدة نفسها”. 2

عن أكاذيب النّساء

هي المجموعة القصصيّة الـ 16 للأديبة الشّعلان، وتحتوي على خمسة عشر عنواناً، إلاّ أنّها تناهز 190نص تعالقيّ بين القصّة القصيرة  والقصّة القصيرة جدّاً والومضة  والشّذرة، مستفيدة من البنى الحكائيّة في التّراث العربيّ، وهذا واضح  في أكثر من قصّة من قصص المجموعة ذات الأشكال المتوالدة والمتداخلة القائمة على المفارقة واستدعاء الأشكال في السّرد والحكي التّراثيّ، وتركيز الأحداث والأزمان والأزمات في حدث قلق واحد، واجتهدت القاصّة في استخدام تقنيّة السّرد التّراكميّ “إنّ مثل هذا التّداخل السّرديّ يعني فيما يعنيه، تقسيم الحكاية الواحدة إلى مجموعة من الأحداث المكتفية بذاتها معنى ودلالة، لكنّها لا يمكن أن تعطي المعنى العام للحكاية الأمّ ما لم تتداخل مع بعضها، حيث يتداخل الأوّل والثّاني بالأوّل والثّالث، وهكذا يستمرّ التّداخل حتى تكتمل الحكاية، أي أنّ الحدث يركّب على الحدث الذي قبله، ويدخل في الحدث الذي يليه “3 على سبيل المثال في  قصص: “أكاذيب النّساء” التي أخذت المجموعة عنوان لها، و”أكاذيب العدالة”، و”صهوات الكذب”.4

وقد استخدمت القاصّة أسلوب القصص الفرعيّة، مثال: قصّة “أفراح التّدليس ومصارع الصّادقين” 5، وهذا أسلوب تراثيّ وجوده الأدبيّ  يتجلّى عند  الفيلسوف ” عبدالله بن المقفع” في كتاب ” كليلة ودمنة”، أو في قصص ألف ليلة وليلة؛ فالأبواب التّسعة لقصّة أفراح التّدليس ومصارع الصّادقين”: فيما ورد في باب فضائل اللّصوص الشّرفاء، وفيما ورد في باب فضل الكذب الكبير على الكذب الّصغير، وفيما ورد في باب مصارع الصّادقين ومهالك الورعين، وفيما ورد في باب اختلاف أقدار الصّادقين والكذابين، وفيما ورد في باب التّاريخ لأهل التدليس، وفيما ورد في باب حسن الاغتنام عند أهل الإفك والبهتان، وفيما ورد في باب مُلح أهل النّفاق والرّياء، وفيما ورد في باب أكاذيب الغواني وترّهات الشّطار، وفيما ورد في باب من عشق نساء الخنا وما استطاع أن يعشق غيرهن.

شكّلت هذه الأبواب المختلفة النّصّ، إلاّ أنّها متّصلة بالموضوع، وانطوت على استحضار مقاصد اللّغة ببعدها التّداولي والسياقي خدمة للخطاب الحجاجيّ بمستوياته المتعدّدة للتّعبير عن  الاعتلال القيميّ وانحطاط السّلوك الإنسانيّ، وكشفت عن الأساليب والممارسات والدّوافع المتعلّقة بفعل الكذب ونتائجه الكارثيّة ثقافيّاً واجتماعيّاً التي تسود علاقة المجتمع من أعلى الهرم الاجتماعيّ والسّياسيّ إلى أسفله.

كلّ ذلك يتحقّق من خلال دلالات مباشرة ومضمرة داخل هذه النّصوص “الأبواب”، وضمن السّياق الحكائيّ والسّرديّ. ومثلما تكون الدّلالات مباشرة وغير مباشر، فعلاقة تلك النّصوص بنصوص أخرى علاقة ظهور وخفاء حسب “جيرار جينيت”، وهكذا يكون التّناصّ مباشر وغير مباشر.

عن ألفة الكذب:

إنّ قصص هذه المجموعة فضح صارخ لألفة المجتمعات الإنسانيّة على الكذب تحت ذرائع ومبرّرات نفعيّة واستغلاليّة متعدّدة، حتى بات السّاسة والحكام  يكذبون على شعوبهم بالوسائل كلّها لممارسة الحكم، وتقول المفكّرة والفيلسوفة الألمانيّة الشّهيرة “هانا آرنت” (1906-1975م) اللّجوء إلى الكذب في ممارسة السّياسة هو مسّ فاضح بكرامة المواطن وهدم بيّن للعقد الاجتماعيّ بين النّاس: “ذلك السّياسيّ المحنك أتقن الكذب والسّرقة، كما أتقن أن يقوم بهما بحرفيّة مجيدة؛ فهو يفضّل الأناقة والحرفيّة على عمل الهواة، وتجارب المبتدئين، ولذلك عندما يكذب، فهو يقدم الكذب وجبة شهيّة “6

والإعلام يزيّف الحقائق ويكذب: “هو يدين بالكثير للوسط الذي جعله يحوّل موهبته في الكذب من هواية ضالّة إلى تخصّص علميّ وموهبة فريد” 7

والإعلانات تكذب، والبعثات الدّبلوماسيّة لا تتوانى عن استخدام الكذب والدّيماغوجيّة ليل نهار، والأزواج تكذب، والخدم والأسياد يكذبون، وهكذا دواليك حتى أصبحنا في شبكة معقّدة جداً من الأكاذيب.

وهذا ما يؤكّد نكوصنا الإنسانيّ وتدهور العلاقات الاجتماعيّة والأسريّة “فلو كان للكذب كما هو شأن الحقيقة وجه واحد، لكانت العلاقات بيننا أحسن ممّا عليه، فيكفي أن نحمل على محمل صدق نقيض ما ينطق به الكاذب منا، إلاّ نقيض الحقيقة له مائة ألف وجه، ولا يمكن الإلمام كلياً بالحقل الذي يشغله ” 8

ولكن تبقى الحقيقة ليست مرادفاً للواقع، بل قيمة أكثر إطلاقيّة وتسامياً منه، فلجأت القاصّة إلى عنونة نصوص قصّة “أكاذيب النّساء” 9  الفرعية باستخدام مفردة حقيقة لتعميق دلالة العنوان السّيميائيّة، وإعطائها بعداً فلسفيّاً: أكاذيب العانس/ حقيقة العانس، أكاذيب الخادمة / حقائق الخادمة، أكاذيب الزّوجة / حقائق الزّوجة، أكاذيب الجميلة/ حقائق الجميلة، أكاذيب العروس/ حقائق العروس، أكاذيب الحرّة/ حقائق الحرة ، أكاذيب السّاحرة/ حقائق السّاحرة.

في هذه الحكايات القائمة على اجتراء نقيضين متضادّين؛ الكذب / الحقيقة، لا يلحق الكذب  فيهاالأذى بالآخرين، بقدر أنّه خداع للذّات “الايحاء الذّاتيّ”؛ لأنّ الحقيقة والواقع شيئان مختلفان، والحقيقة هي قول الصّدق، لكن الحقيقة لا تقبل النّسبيّة كما الصّدق المنتمي إلى الأكسولوجيا “القيم والمثل العليا “، والضّد للكذب المنتمي للرّذيلة والسّقوط.

ويتجلّى الخطاب الحجاجيّ في الاستهلال الأوّل لهذه المجموعة بوصفه صرخة احتجاج مدويّة ضدّ الكذب والكذابين لتحقيق نمط حجاجيّ بالمخاطبة بواسطة الإهداء: “إهداء كاذب” إليهن عندما يجدن الكذب كي يوارين الألم خلف الصّمت .

إليّ لأنّني أفوقهنّ قدرة على الكذب .

إلى مولانا الكذب الذي يهبنا الهراء كلّما احتجنا إليه في عالم لا يدين إلاّ له ولمريديه من الخرّاصين”.

وفي الصّفحة التّالية صرخة أو إجابة بصيغة سؤال احتجاجيّ.

درب : لولا الكذب ما كانوا، وما كان الألم .

إجابة: هذه هي أكاذيبهنّ، فماذا عن أكاذيبكم؟”10.

وخلصت نصوص هذه المجموعة بخطابها الحجاجيّ وفق رؤية تحريضية /ثوريّة  جديدة للواقع، وكما أكّد “رولان بارت” في إبداعيّة الخطاب “الخطاب ليس تمثيلاً للواقع، بقدر ما هو خلق لهذا الواقع وفق رؤيّة جديدة تجعلك تفكّر فيما لم يفكر فيه أحد، بعبارة أخرى تفكّر فيما حجبته الألفة والعادة عنك”، وهنا نجحت القاصّة “الشعلان” من خلال المسرود من حيث هو حبكة لاستحضار ما نفهم به الواقع الذي حجبته الألفة والعادة عنّا من خلال الموضوع الجماليّ الذي اختارته “لكنّه موضوع مُرّر من خلال رؤية معينة وفق اقتضاءات جنس أدبيّ معين، وتوجيه فنيّ ما، وخلفيّة معرفيّة معيّنة، ومتحكمات محّددة، والمقصود بتحديد الرّؤية من خلال هذه العناصر أن يصير الموضوع مرراً من وجهة نظر أيديولوجيّة.”11

الملفت للنّظر في هذه المجموعة بوصفها وثيقة سرديّة بتنويعاتها المختلفة إثارة انتباهنا لسيل الكذب الجارف المستحكم في مجتمعاتنا الذي ألفناه دون أن نحتجّ عليه، ويبرّر البعض كذبه للعرف السّائد، وهذا لا يستقيم مع العرف بوصفه مفهموماً نستتر به بقول الكذب وارتكاب الأفعال المشينة والمنحطّة، فمفهوم العرف: هو الأمر الذي اطمأنّت إليه النّفوس، وعرفته، وتحقّق في قراءتها وألفته، مستندة في ذلك إلى استحسان العقل، ولم ينكره أصحاب الذّوق السّليم في الجماعة، وعكس ذلك هو بهتان وتدليس للحقيقة .

مجتمعنا العربيّ زاخر بالكذب بأنواعه كلّها تحت طائلة الأعراف والعادات دون إخضاعها للعقل والذّوق السّليم، ولا تستقيم أمور العباد أو الجماعة التي تشترط للعرف أن تطمئنّ النّفوس له، ولا يكفي اعتياد الأكثريّة عليه، ليصبح عادة، فهناك نسبة كبيرة من الأعراف الفاسدة نحتكم إليها، ونتمسّك بها، وتتمسّك بنا.

“عندما اجتمع رجال أسرتها، وقررّوا بكلّ رجولة صداحة، وعدالة صارمة أن يذبحوها؛ لأنّها جرّت العار عليهم برفضها الزّواج بمن اغتصبها، وخسارة امرأة أهون من خسارة رجل في عرف القبيلة” 12

وما أكثر الجماعات التي تلبس كذبها بالدّين زوراً وبهتاناً، ويمارسون كذبهم باسم “الحقيقة المقدسة”، ويحملون فكراً دينيّاً متخلفاً وأفكاراً قطعيّة، حيث لا مجال للتّفكير وإعمال العقل هم جماعات هشّة، ول قوة لها، ولو تُركت وشأنها، فستأكل نفسها بنفسها؛ لأنّ القضية لديهم ليست قضية خطأ وصواب، وإنّما هي قضية حلال وحرام، ثم تعاظمت إلى إيمان وكفر ثم استباحة دماء، وهي جماعات هزيلة وغشيمة”  13تعطّل التّفكير واللّجوء لمسلّمات ميتافيزقيّة تكهنيّة مليئة بهراء تاريخ زبالة يعجّ بالكذب والأفّاقين، ولا تعطيهم الحقّ؛ لأنّ الحقّ قائم بذاته وفرض آراء خرافيّة لا تمتّ للعقل والتّفكير الإنسانيّ لا من قريب ولا من بعيد ويقول “كانط” فيلسوف السّلام الأبديّ والمثاليّة: “إنّ البشر كلّهم يُولدون بقيمة جوهريّة أساسها أنّهم قادرون على اتّخاذ القرار باستقلال تامّ والكذب يفسد القدرات الأخلاقيّة للإنسان، ويعيق الآخر في السّلوك بعقل وباستقلال، وبالتّالي هو مسّ بالكرامة الإنسانيّة التي نادت الأديان السّماويّة بها.

تحتج  “أكاذيب النّساء” بقوّة  في العالم المبني على الكذب الذي يمارس من أجل   تغييب الحقيقة، فلا غرابة في أن يشيع الظّلم والعبوديّة بسبب الكذب والكذّابين تحت ذرائع ومسمّيّات شتى وأعراف بالية لم يعد لها معنى أو قيمة في حياتنا المعاصرة، وتسحق الشّرائح المستضعفة، وتستغلّها، والنّساء أوّل هذه الشّرائح المستغلّة، ويحدث كلّ ذلك مرة باسم الدّين وأخرى باسم الأعراف المحكومة بجندريّة قاسية ومميتة.

إنّ قضية المرأة في مجتمعاتنا العربيّة هي قضيّة معقّدة ومركبة وشائكة، مثل الكذب نفسه، وتشارك المرأة في خذلان نفسها لاستسلامها للكذب، بوصفه طريقاً لدرء مخاطر محيطها، والدّفع بقبولها الكذب بوصفه وسيلة دفاعيّة، وأتت هذه القصص من تجربة اجتماعيّة نعيشها جميعاً بتجليّاتها وآثارها بشكل يوميّ أصبح الكذب متلازمة مرضية أصابت المجتمع ونخبه الفاسدة السّاقطة في الرّذيلة والابتذال، المتوارية خلف الكذب وأقنعته المتعدّدة التي تملكها؛ لتخفي حقيقة واحدة كبرى، وهي أنّها كاذبة ومتهالكة، وساقطة، وتسير بالمجتمع، والحضارة والإفراد نحو الفساد والإفساد والخراب والدّمار، وأصبح العالم الإنسانيّ يبتعد عن الأمن والأمان؛ لأنّ دول تمارس الكذب والاحتيال على دول أخرى.

استخدمت القاصّة السّخريّة والفنتازيا، كما استخدمت المفارقة والتّقابل والتّضادّ في سبيل استمالة القارئ وإقناعه بالخطاب المرسل  إليه سعياً لتأكيد الحقيقة التي تدافع عنها، ليس من منطلق يوتوبيا أو فلاطونيّة أو مثاليّة، بل تروي قصص من الواقع  وإسقاطاته وتعريته، كما هي الحقيقة عارية، وعلى القارئ أن يستنطق الدّال والمدلول لإقامة الفهم أو المعنى “ولن يأتي ذلك إلاّ بتحديد مرجعيّة خاصّة بمعرفة حقيقة الأشياء، أو الأمور المتحدث عنها، أيّ حقيقة ما وراء الكلام، وهي حقيقة قد تظلّ معلّقة في النّصّ الأدبيّ رغم إصرار علماء اللّسان وعلماء الخطاب على أنّ القيمة المرجعيّة حاسمة في بناء النّصوص قد تبهت، وقد تختفي، لكنّها لا تضمحل، ولا يمكن الاستغناء عنها أبداً” 14

ولا تغفل هذه القصص  كذب المهمّشين والمستضعفين اضطراراً نتيجة الاستلاب النّفسيّ والوجوديّ والنّساء في مجتمعنا العربيّ تبقى فرائس مستهدفة بشراسة، ولا تختلف كثيراراً في المجتمعات الأخرى التي تدّعي التّحضر.

لقد نجحت نصوص هذه المجموعة بجملة الأساليب الحجاجيّة التي اضطلعت بحمل المتلقي “القارئ على الإقناع  بمبرراتها السّرديّة بما عرضته وكسر التّوقعات لسلوك شرائح نخبويّة، كما تسمّي نفسها تقوم بأفعال لا تتطابق، ولا تتوافق مع ما هو متوقّع في أذهاننا، وبضدّها تبنى الأشياء والأفعال والسّلوكيّات في مجتمعات متهاوية ومتورطة بالرّذيلة والفجور تدين للكذب والكاذبين، وهذا جلي من خلال  الخطاب الحكائيّ المبني على البلاغة لتتّسع إلى خصائص جديدة مع نصوص هذه المجموعة  المرتكزة على الخطاب الحجاجيّ، وهو محطّ أنظارنا حصراً في تناول هذه النّصوص القصصيّة والحكائية في المجموعة انطلاقاً من “إنّ الحكي بمعنى الخطاب هو الذي يمكن دراسته أو تحليله تحليلاً نصيّاً، وذلك لسبب بسيط هو أنّ القصّة، أو السّرد لا يمكن أن يوجد إلاّ في علاقة مع الحكي، وكذلك الحكي، أو الخطاب السّرديّ لا يمكن أنّ يتم إلاّ من خلال حكيه للقصّة، وإلاّ فليس سرديّاً، وأنّ الخطاب سرديّ بسبب علاقته بالقصّة التي يحكى وبسبب علاقته بالسّرد الذي يرسله” 15

ويمكن القول إنّ هذه المجموعة تنحو منحى الكتابات النّثريّة المتخصّصة لنخبة من القراء، وهي بذلك مضنون بها على غير أهلها؛ ولذلك غلب عليها الحجاج والتّدليل والنّقاش؛ لأنّها تنبثق من فكرة الاستدلال والإقناع بغية تسجيل الرّفض والاحتقار للكذب والكذابين.

والمجموعة تجربة فريدة وخاصّة في توثيق سير الكذابين لاسيما في أوساط النّخب المزورة التي أفسدت الإنسان والمجتمعات، وهي تعرية لهم جميعاً بغية فضحهم وتجريمهم ولعنهم في الذّاكرة والتّاريخ.

ومن هذا المنطلق تعدّ هذه النّصوص السّرديّة ليست مجموعة قصصيّة تستهدف قطاعات القرّاء جميعها، بل هي تتوجّه نحو النّخب أيّاً كان وضعها أكانت نخب متسلّقة مفروضة على المجتمع، وهي رمز للسّقوط و الانتهازيّة والخواء، أم كانت نخب حقيقيّة تعاين ما يحدث حولها من فجور وكذب، وتلوك القهر، وفي الغالب هي مغلوبة على أمرها وصامتة، وهاربة نحو العزلة والاعتكاف بعيداً عن فساد المفسدين وكذب الكذّابين.

من هنا أصبحت هذه النّصوص وثيقة إدانة تاريخيّة وخطاب احتجاج صريح، وأنّ في وسع الخطاب أن يكون أكثر اتّساعاً من النّصّ، لكن النّصّ أكثر بقاء، وأثبت مع الزّمن لم يرتهن للحظة الإرسال .

كما نجحت القاصّة في استخدام السّخرية والفنتازيا والمفارقة والتّقابل والتّضاد في سبيل استمالة القارئ وإقناعه بالخطاب المرسل إليه سعياً لتأكيد الحقيقة التي تدافع عنها ليس من منطلق يوتوبياويّ أو افلاطونيّ؛ لأنّها تروي قصص من الواقع  وإسقاطاته  وتعريته، كما هي الحقيقة عارية.

وهي كذلك لا تغفل كذب المهمشين والمستضعفين اضطراراً نتيجة الاستلاب النفسيّ والوجوديّ، والنّساء في مجتمعنا العربيّ تبقى فرائس مستهدفة من القريب والبعيد نتيجةلاختلال العدالة التي أخضعها الذّكور لسلطانهم.

كتبت القاصّة في مجموعتها “أكاذيب النّساء”:” كان الأمر أسهل ممّا تتخيّل، اغتنم فرصة بقائها وحدها في بيتها، واغتصبها بكلّ سهولة وسطوة بعد أن استفرد بها، قاومته بشدّة، لكنّه كان أقوى منها جسديّاً، وبذلك حظي ببكارتها، وثم سلّم نفسه للشّرطة معترفاً بجريمته، ومعلناً أنّه على أتمّ الاستعداد للزّواج بها وفق ما يقرّه القانون من حقّ المغتصب بالزّواج ممن اغتصبها، وكان القانون مفصّل بعناية لخدمة المجرم” 16

“انتهت المجموعة القصصيّة ، لكن لم ينته الكذب ! كُتبتْ هذه المجموعة ذات صدق ” هكذا  ختمت  د. سناء الشعلان مجموعتها أو وثيقة الإدانة للكذب والكذّابين .

وبعد؛

تنتمي هذه المجموعة القصصيّة إلى القصة المعاصرة التي تقوم على التّجريب على مستوى الشكل و “بتعديلها عن الخطوط المستقيمة، وتركت هذا العالم البسيط لتقيم عوالم أخرى تعتمد على توازي الخطوط وتقاطع الأحداث وتعدد المستويات، حتى تتمكّن من شقّ بطن الواقع والنّفاذ إلى أحشائه بدلاً من الانزلاق على سطحه” متّخذة من التّكثيف الدّراميّ لمعاناة بطلاتها بتبادل الرّمز الضّديّ للكذب وشجرته مقابل الحقيقة والصّدق تارة بالمجاهرة والوضوح، وتارة تعتمد على التّورية للإشارة إلى موضوعات شائكة، مثل انعدام العدالة الاجتماعيّة والقهر والرّضوخ لسلطات متعدّدة، وكذلك الجنسيّة الاجتماعيّة تخضع لفاشية المجتمع الذّكوريّ في مختلف الأنظمة حتى في ظلّ الأنظمة التي تظهر تضامناً مع النّساء، وهي أنظمة نتجت من الصّراع الطّبقيّ عن الأساس واستغلال المرأة، والاتّجار بها بوصفة سلعة اقتصاديّة، وبعض القصص تمثّل إدانة للنّساء الخانعات للقيم والعادات نتيجة الرضا والخنوع والقبول بالاستلاب والعبودية.

وقد أثارت القاصّة “سناء الشعلان” قضية بالغة الأهميّة من خلال خطاب حجاجيّ مؤكّدة “لا يمكننا الزّعم بأنّ كتابات النساء جميعها تنطلق من منظور مؤنّث، وتحمل قيماً مؤنّثة، بل لا يمكننا الزّعم بأنّ أيّ شيء تكتبه النّساء نسويّاً بطريقة أو بأخرى.

وعليه يتبع من هذا الخطّ الفكريّ سؤال مثير للفضول:” هل يمكن أن يُقال عن الرّجل الذي يتّفق مع هذا، ويعبّر عنه أنّه نسويّ؟ أعتقد أنّ الإجابة هي نعم، بينما يجب أن نعترف في الوقت نفسه بأنّ الرّجل النّسويّ يعبّر دائماً عن وضع عن المرأة النّسويّة في علاقتها بالعدالة الاجتماعيّة القائمة على أساس النّوع”، وهذا أمر مفروغ منه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى