هذه الأسباب التي جعلت بريطانيا تُخفي بعض وثائقها السرية في أرشيف علاقاتها مع دول بالشرق الأوسط

النشرة الدولية –

كشف تحقيق استقصائي في وثائق الأرشيف الوطني البريطاني عن ”السرّ“ الذي جعل الحكومات البريطانية المتعاقبة تُصرّ على إتلاف أو إخفاء بعض الوثائق التاريخية الخاصة بفلسطين والعراق والكويت وعدن وإيران ومصر، وتستثنيها من الإتاحة للقراءة في عمليات كشفها الدوري عن الوثائق التي يكون مضى عليها وقت كافٍ لأن ينزع عنها طابع الحساسية، بحسب ما نشره موقع “إرم نيوز”.

ما  وصفه موقع ”زيرو هيدج“ الإخباري الاستقصائي بأنه ”أحد الأسرار العميقة في السياسة البريطانية بالشرق الأوسط“، كشفه الصحفي ”توم سواريز“ في مقارنته لمجموعة من الوثائق تعود إلى أربعينيات القرن الماضي، وتتعلق بالزعيم الفلسطيني الحاج أمين الحسيني، وظروف إقالته من منصب مفتي فلسطين، على يد سلطات الانتداب البريطاني، وكيف انتقل للعراق الذي كانت الحكومة البريطانية تبحث عن سبب لإعادة احتلاله.

توظيف شعارات المعارضين لتسويغ سياساتها

ويربط التقرير بين حقيقة ما كانت تخطط له بريطانيا في العراق وفلسطين وتوفّر له ظروفه باستخدام وتوظيف المعارضين والمتطرفين، وبين ما حصل لاحقًا في إيران بالانقلاب على محمد مصدق، ثم مع الكويت في تهديدات الزعيم العراقي عبدالكريم قاسم باحتلالها عام 1961، وصولًا إلى ما حصل في مصر أواسط خمسينيات القرن الماضي، مرورًا بما حصل في عدن، وانتهاء بإسقاط نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين.

وثيقة عن فلسطين عمرها 78 عامًا

يقول التقرير إن إصرار الحكومات البريطانية المتعاقبة على إخفاء وثيقة عن فلسطين عمرها 78 عامًا، تبرره لندن بأنه قد ”يقوض أمن“ بريطانيا ومواطنيها. لكن حقيقة الأمر تبدو الآن بأنها تتعلق بقاعدة أساسية خفية في السياسة البريطانية بالشرق الأوسط، تتمثل بـ“خلق ذرائع كاذبة للتدخل العسكري“ كما يقول التقرير.

الوثيقة التي كشفها الصحفي توم سواريز من أرشيف المكتب الكولونيالي تتعلق بـ“أنشطة مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني في فترة 1940-1941.

فبعد اغتيال لويس أندروز، مفوض الانتداب البريطاني في الجليل بشمال فلسطين، في سبتمبر 1937، طردت الحكومة البريطانية الحاج أمين الحسيني من منصبه كرئيس للمجلس الإسلامي الأعلى وقررت إلقاء القبض على جميع أعضاء اللجنة العليا العربية، وهو منهم.

لجأ الحسيني إلى الحرم الشريف في القدس، ثم فر إلى يافا ثم لبنان، وانتهى به الأمر في العراق، حيث لعب دورًا في الحركة الوطنية العراقية المناهضة لبريطانيا.

ومعروف أنه أمضى الحرب العالمية الثانية في التنقل بين برلين وروما وشارك في حرب الدعاية ضد بريطانيا وفرنسا من خلال البث الإذاعي العربي.

دور المفتي في ثورة العراق 1941

في أبريل 1941، وأثناء وجود الحاج أمين الحسيني في بغداد، قام ضباط وطنيون عراقيون بانقلاب سمي بثورة الميدان الذهبي، جرى فيها الإطاحة بالنظام الموالي لبريطانيا، وتعميم شعارات تفيد بأنهم (الانقلابيون) على استعداد للعمل مع المخابرات الألمانية والإيطالية، وهو ما كان الحسيني يعلنه ويدعو له.

وردًا على ذلك، كما يقول التقرير، شرع البريطانيون في حملة عسكرية انتهت بعد شهرين بهزيمة قادة الانقلاب.

لكن سواريز اكتشف في الملفات أن البريطانيين كانوا يخططون لهذا ”الاحتلال العسكري للعراق“ منذ نوفمبر 1940 – قبل أن يوفر لهم وجود الحسيني وانقلاب الميدان الذهبي ذريعة للقيام بذلك.

وينقل الصحفي سواريز من أحد الملفات أن بريطانيا كانت تعلن أنها تريد إنهاء ”مؤامرات المفتي مع الإيطاليين بالعمل على تشكيل حكومة جديدة في العراق“. وهو ما فعلته بسحق الانقلاب وتبرير إعادة احتلالها العراق، الذي كانت خططت له مسبقًا.

 نسخة هولوكوست ثانية

جانب آخر سري كشفته استقصاءات الأرشيف الوطني البريطاني، يتمثل بالعلاقة الزمنية الغامضة بين عودة القوات البريطانية وهزيمتها للانقلابيين الرافعين شعارات الحسيني، وبين تهجير اليهود العراقيين لفلسطين، باعتباره هدفًا رئيسيًا للصهيونية.

يقول التقرير إنه مع دخول القوات البريطانية في بغداد، هزت المدينة مذبحة عنيفة معادية لليهود، أسفرت عن مقتل أكثر من 180 يهوديًا عراقيًا وتدمير منازل مئات من أفراد الجالية اليهودية الذين عاشوا في العراق لعدة قرون.

وبغض النظر عن دقة الأرقام والمعلومات، فقد جرى توصيف ما حصل ليهود العراق بأنه ”فرهود“ (مذبحة) أو ”كريستلناخت“ تشكل، حسب التقرير، نسخة مماثلة للهولوكوست الذي طال اليهود في ألمانيا النازية قبل ذلك بثلاث سنوات.

وتعرض الدراسة كيف أنه كانت هناك ادعاءات منذ فترة طويلة بأن البريطانيين تغاضوا عن هذا الشغب أو قاموا بتنظيمه لتشويه سمعة النظام القومي وتبرير عودة بريطانيا إلى السلطة في بغداد وإدامة احتلالها العسكري للعراق.

وتنقل الدراسة تقييمًا للمؤرخ توني روكا قال فيه إنه ”عار على بريطانيا أن جيشها كان قد وقف في العراق يشهد ما حصل ولم يتدخل. السير كيناهان كورنواليس، سفير بريطانيا في بغداد، ولأسباب خاصة به، احتجز القوات البريطانية عن التدخل لوقف الفوضى، وهو في ذلك يعصي أوامر من رئيس الوزراء ونستون تشرشل بضرورة أخذ المدينة وتأمين سلامتها. ولكن  بدلًا من ذلك، عاد السير كيناهان مساء ذاك اليوم إلى مقر إقامته، وتناول وجبة عشاء على ضوء الشموع ولعب البريدج“ كما يقول التقرير“.

انقلاب إيران 1953

ويتساءل التقرير: ”هل يمكن أن يكون هذا هو السبب في أن رقابة حكومة المملكة المتحدة على الأرشيف الوطني أرادت أن يظل هذا الملف سريًا بعد كل هذه السنوات؟“.

مضيفًا: ”هذه ليست المرة الأولى، ولا آخر مرة يستخدم فيها المخططون البريطانيون أو يبدعون ذرائع لتبرير تدخلاتهم العسكرية، في عام 1953، شملت الحملة البريطانية والأمريكية السرية للإطاحة بالحكومة القومية المنتخبة لمحمد مصدق في إيران عنصر ”الإعلام والشعارات الزائفة“. تظاهر الوكلاء الذين يعملون لصالح البريطانيين داخل أنصار حزب توده الشيوعي، حيث شاركوا في أنشطة مثل إلقاء الحجارة على المساجد والملالي، من أجل تصوير المتظاهرين على أنهم شيوعيون. كان الهدف، كما يقول التقرير، هو توفير ذريعة للانقلاب وتولي شاه إيران السيطرة على نهج معاداة الشيوعية“.

 العدوان الثلاثي على مصر

بعد ثلاث سنوات، في عام 1956، تجمعت أدوات بريطانيا سرًا أيضًا لتصنيع ذريعة لتدخلها العسكري في مصر. فبعد أن قام الرئيس المصري جمال عبدالناصر بتأميم قناة السويس وسعت بريطانيا للإطاحة به، اتفقت الحكومتان البريطانية والفرنسية سرًا مع إسرائيل على أن الأخيرة ستهاجم مصر أولًا. بعد ذلك، كانت لندن وباريس ترسلان قوات عسكرية بحجة فصل الأطراف المتحاربة والاستيلاء على القناة، تم تنفيذ الخطة، ولكنها فشلت، ويرجع ذلك بدرجة كبيرة إلى المعارضة الأمريكية للعدوان الثلاثي.

 تهديد قاسم للكويت عام 1961

ويورد التقرير حادثة أخرى مماثلة بعد خمس سنوات، في الكويت عام 1961.

يقول التقرير، نقلًا عن وثائق في الأرشيف الوطني، إن بريطانيا كانت تخطط للبقاء في الكويت فاستخدمت لذلك تهديدًا عراقيًا باحتلال الكويت تبين أنه تهديد مزعوم حرّكته السفارة البريطانية في بغداد.

وكانت الصحيفة في ذلك تشير إلى ما يعرف بتهديد عبدالكريم قاسم باحتلال الكويت.

ففي الملفات التي رفعت عنها السرية والتي درسها الصحفي توم سواريز، ما يشير إلى أن هذا ”التهديد“ تم ترتيبه من قبل المخططين البريطانيين. عندما حصلت الكويت على الاستقلال في يونيو 1961، كانت بريطانيا تريد البقاء بشكل أو بآخر  لحماية مصالحها النفطية وتوطيد علاقاتها التجارية والعسكرية مع الكويت. وتتضمن الملفات ما يفيد بأن البريطانيين كانوا بحاجة إلى حمل الكويتيين على ”مطالبة“ بريطانيا ”بالحماية“.

وفي التفاصيل أنه في 25 يونيو 1961، أعلن الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم أن الكويت جزء من العراق. وبعد خمسة أيام، طلب أمير الكويت رسميًا تدخلًا عسكريًا بريطانيًا، وفي 1 يوليو، هبطت القوات البريطانية، وبلغ عددها في النهاية حوالي 7000.

لكن التهديد العراقي للكويت لم يتحقق عمليًا. وحسب ما كتبه لاحقًا، ديفيد لي، الذي قاد القوات الجوية البريطانية في الشرق الأوسط عام 1961، فإن الحكومة البريطانية ”لم تأخذ العدوان من جانب العراق بجدية“. ويضيف التقرير دلائل تشير إلى أن القيادة الكويتية تعرضت للخداع من قبل البريطانيين وأن معلوماتها عن تحرك عراقي محتمل ضد الكويت جاءت بشكل حصري تقريبًا من مصادر بريطانية.

وينقل التقرير من ملفات الأرشيف البريطاني ما يفيد بأن ”التهديد“ للكويت كان يتم تحريكه من قبل السفارة البريطانية في بغداد، إلى حد أن القنصلية البريطانية في البصرة القريبة من الحدود الكويتية، أفادت يومها بعدم وجود أي حشود عسكرية عراقية.

ويضيف التقرير أن التدخل البريطاني كان يهدف إلى طمأنة الكويت وغيرها من أنظمة الشرق الأوسط الصديقة لبريطانيا، بأن هذه الصداقة أساسية للحفاظ على استقرار الشرق الأوسط ومنطقة الخليج المهمة نفطيًا للعالم. يومها قال مستشار السياسة الخارجية لرئيس الوزراء البريطاني، إن ترك الكويت سيعني أن البلدان النفطية الأخرى لن تعتمد علينا بعد الآن.

ويذهب التقرير من هذه الوثائق إلى أنه ”بحلول الوقت الذي وصلنا فيه إلى غزو العراق عام 2003، أصبح إيجاد ذرائع كاذبة للتدخلات موضوعًا مألوفًا في السياسة الخارجية البريطانية“.

إخفاء أو تدمير الوثائق

وبربط هذه الشواهد المتتابعة، وبالعودة إلى وثيقة عام 1941، فقد أشار التقرير إلى أن السلطات البريطانية اتبعت بشكل منهجي سياسة إما فرض الرقابة أو ”فقدان“ أو تدمير الملفات التاريخية التي يمكن أن تقوض العلاقات مع الحكومات الحالية.

وكانت مراجعة رسمية جرت عام 2012، خلصت إلى أن ”الآلاف من الوثائق التي توضح بعضًا من أكثر الأعمال ”المرفوضة“ التي ارتكبت خلال السنوات الأخيرة من الإمبراطورية البريطانية، دُمرت بشكل منهجي لمنع وقوعها في أيدي حكومات ما بعد الاستقلال“، وفقًا لتقرير نشرته في حينه صحيفة الغارديان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى