الرأسمالية العاطفية* لمياء المقدم
النشرة الدولية –
يحدث أن تتحول العواطف والمشاعر عند بعض البشر إلى عملة للدفع والمقايضة والاستبدال، تماما كما في حال العملة النقدية العادية.
يجد الإنسان نفسه أحيانا داخل علاقات متشابكة ومتداخلة لا تستقيم مع بعضها، كما لا تستقيم من دون بعضها، بينما هو يقف وسط هذه الدائرة المعقدة من التجاذبات حائرا في إدارتها وعاجزا عن الخروج منها دون الإضرار بنفسه أو بأحد أفرادها.
ورغم أنها عملية في غاية التعقيد إلا أن البعض يحبون أن يكونوا داخل هذه الشبكة المستعصية من الترابطات، ليشعروا بمركزيتهم.
ويشعر الإنسان بمركزيته عندما يدرك أن انسحابه من هذه الدائرة يعني سقوطها بالكامل وتفكك خيوطها، وتصبح إدارة هذه الشبكة من العلاقات المتناقضة هدفا أساسيا في حياة هذا الشخص ومركز قوته.
لا أحد يحب أن يكون بين طرفين متنازعين، لكن الطامحين إلى المركزية والسلطة يستمتعون بالوقوف داخل دائرة كاملة من النزاعات مشدودين إلى كل أطرافها بخيوط شديدة الدقة، يرخون ويشدون حسب رغبتهم.
وقد رأيت أشخاصا تحول هذا الأمر إلى شغلهم الشاغل في الحياة ومصدر إشباع وتسلية أساسي لا يمكنهم التخلي عنه، حتى إنهم كرسوا له وقتهم وجهدهم وشغفهم.
وإذا كانت إدارة العلاقات مهارة تحتاج الكثير من الخبرة والصبر والتركيز، فإن إدارة المشاعر التي تحكم هذه العلاقات مهمة تكاد تكون مستحيلة لمن لا يملك هاجس المركزية.
يعمد مدير المشاعر إلى معرفة الاحتياجات الأساسية لكل فرد من أفراد الشبكة التي يديرها، ومن ثم التعاطي معها وفق هذا الأساس، ويصبح التحكم فيها مبنيا على حجب أو تقديم المساعدة (الاحتياج) المطلوب. ولإعطاء مثال على ذلك يمكن تخيل أحدهم وهو يقف بين مجموعة من الأفراد الذين تربطهم به علاقات أسرية؛ زوجة وأبناء وأم وأخوة وأخوات وأصدقاء. تقريبا في كل العالم يسعد المرء بوجود علاقة جيدة بين زوجته وأمه وإخوته، وبين أبنائه وجدتهم، وبين زوجته وأصدقائه، إلا في حالة ملاحقي المركزية، فهؤلاء يسعون بكل جهدهم إلى إفساد كل علاقة لا تعبر من خلالهم أو تكتمل بوجودهم، ذلك أن حدوث أمر كهذا يعني تهميشهم، وتجاوزهم ما قد يشعرهم بعدم الأهمية وفقدان السيطرة والضجر.
تتطلب إدارة مجموعة كهذه والسيطرة عليها معرفة الاحتياجات النفسية لكل فرد فيها، وهو ما يسهل التحكم فيها لاحقا، عبر زيادة أو إنقاص كمية الاحتياج. وعند هذه النقطة تتحول العواطف إلى عملة للمقايضة، فتذهب 100 غرام اهتمام هنا، و50 غرام محبة هناك، و 200 غرام رعاية لهذا الطرف، و20 غرام حنان لذلك الطرف.
تكمن خطورة هذه العملية في فقدانها للصدق والعفوية، رغم كل ما قد توفره من راحة مؤقتة لجميع الأطراف، فلا الحنان ولا الرعاية ولا المحبة الممنوحة لأطرافها مقصودة لذاتها بقدر ما هي عملة للدفع في المواقف المتغيرة، وما يحدث في هذه الحالة هو “شراء” ذمة أحد الأطراف وإسكاته عبر منحه أكثر بقليل مما يستحقه من اهتمام أو محبة أو تدليل. كما أن “الميل” مؤقتا إلى هذا الطرف أو ذاك والانحياز لخياراته، على حساب الأطراف الأخرى، “تمسيد” على الظهور أقرب إلى الاستغفال منه إلى أي شيء آخر.
يملك الرأسماليون العاطفيون القدرة على حل المشاكل مع الأطراف التي تحبهم وترتبط بهم بشكل أفضل وجذري، لكنهم لا يفعلون، لأنهم إن فعلوا فقدوا مركزيتهم وانهار رأسمالهم في إدارة العلاقات داخل أسرهم، لذلك يزيدون الأمور تعقيدا كلما رأوا أنها تتجه إلى الانفراج ليظلوا المتحكمين في الإنتاج الأسري. وهم، ككل رأسمالي قذر، مرابون بامتياز، ويطلبون في مقابل القليل الذي يمنحونه من حب أو رعاية الكثير من الطاعة والاحترام والتبجيل.
العرب الدولية