“عاشقة من افريقيّة” لمها الجويني .. بوح نسوية متمرّدة
النشرة الدولية –
الجرأة والبساطة، التشبث بالأصل والتوق إلى فروع ضاربة في السماء، الانتصار للنسوية وللأنا الأنثوية، مزيج ممتع وشيق تجده في المجموعة القصصية عاشقة من افريقية للكاتبة التونسية مها سالم الجويني، وعاشقة من افريقية الصادرة عن دار أدال للدراسات الثقافية والنشر، هي 12 قصة او تجربة متنوعة على مستوى الشخوص والاحداث والأمكنة، لكنها تلتقي عند نقطة النضال النسوي ضد السلطوية والذكورية، بحسب ما نشره موقع “حقائق أون لاين” بقلم الزميلة، يسرى الشيخاوي.
والعاشقة وإن كان أصولها ضاربة في إفريقية بما تحمله من دلالات ثقافية وحضارية فإنّها تتأرجح في المجموعة القصصية بين الذاتي والموضوعي، العاشقة هنا هي تلك التي تهرول إذ داعب أحدهم اوتار قلبها فأجاد العزف عليها ولكنّها تبعثر كل الألحان إذا ما تعلّق الأمر بكبريائها.
عقدة الرجل الشرقي
في القصة الأولى ” لن أكون نزوة”، تعرّي مها الجويني بنية العلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمعات الأبوية حيث تتجلّى الهيمنة الذكورية في تحديد طبيعة العلاقة بينهما، في هذه المجتمعات يريدك ” الرجل” نزوة ولكنّه يريد أن يكون “رجل” كل الأيّام والليالي، يريدك متغيّرة لكنّه يأبى إلا ان يكون الثابت المستقر في ثنايا أفكارك، هي عقدة الرجل الشرقي الذي تصوّر له نرجسيته انّه محور اهتمام نساء الكون.
في ” لن اكون نزوة” كان صوت الأنثى صارخا وجريئا، وكانت المرأة ندّا للرّجل بل وكسرت تعاليه على أعتاب ثقتها في نفسها وهي تصّرح أنها تريده لأيام.
رحلة البحث عن الذات
وفي “الصبية الضائعة” تجلّت الكاتبة مها الجويني بكل تفاصيلها، بشعرها المجعّد بإصرارها ووجهها الضاحك ولون بشرتها العابق برائحة صنوبر الشمال وبريق عينيها المشع كالنجوم في ليالي الجبال.
وعنوان القصة وإن يوحي في ظاهره بضياع وجودي إلا أن الامر لا يعدو إلا أن يكون رحلة بحث عن الذات تمسّكت فيها ابنة الشمال بهويّتها وشعرها المجعّد، لم تبال بتعليقات أترابها في المدرسة ولا بتعليقات المعاكسين ولم تدر لظهرها لكل الأصوات التي حاولت تصنيفها في خانات لن تحتوي قلبا لا يعترف بالأطر.
من الشمال الغربي لتونس إلى عاصمتها إلى جنوب افريقيا، تصادف الصبية الضائعة في سخافة التأويلات السطحية التي تقوم على المظهر ولكنّها في المقابل تغوص في ذاتها أكثر فأكثر لتكتشف مكامن المحبّة من حولها.
في الحب كن توّاقا أو انسحب
وفي قصة ” عاشقة من افريقية”، تتبع مها الجويني خطوات “توناروز” الذي يحمل اسمها الأمازيغي الامل بين حروفه، “توناروز” الفتاة المتمرّدة التي لا تتوانى لحظة عن تنفيذ ما بدر في ذهنها.
هي عاشقة صلبة من مكان ما من افريقية، وشبيهاتها كثيرات، يتبعن سبيل الحب ويغصن فيه ويتحدّين الأعراف والتقاليد ويرضين طواعية بوابل من المواعظ من الخبيرات في العلاقات بين الرجل والمرأة وحدودها، كان حبيبها وكانت رقما في سجلّ الفتيات المغريات، أحبّته واعتقدت بأنه يبادلها نفس المشاعر أو هكذا أوهمها فآدم بارع في نسج الوهم لحوّاء وكأنّه ينتقم لواقعة التفاح.
ولأنها عاشقة أعلنت تمرّدها منذ أن طلبت صورة إلى جانبه امام اعين الاهل، ولأنّها من هناك من الشمال الذي صمد في وجه القسوة بكل تجلّياتها، جعلته يمضي من حياتها حينما أخبرها أنه برفقة حبيبته وأطبقت خانة الذكريات على الصورة التي جمعتها به، في الحب كانت “توناروز تواقة” ولم تنسحب إلا مع انجلاء الوهم.
الرقص على الجراح
“الله معنا فمن علينا؟” تساؤل وجودي تعنون به الكاتبة قصّة ليلى تلك التي لا تريد من هذه الحياة سوى ” قيس” يحتويها ويخفّف عن روحها العليلة، ليلى التي لم يلق من خالته حبيبها بالا لصوتها المرتجف ولآلام قلبها.
ولكن ليلى التي أعلت راية الانا الأنثوية وانتصرت لنفسها، لم تبك حينما اعرض عنها، كتمت غيضها وعزفت على الفيتارة التي يحبّها عادل، الذي لا يحمل من معنى اسمه شيئا، عادل لم يكن عادلا وسخر من رغبة ليلى في الزواج منها ونهرها لانّها تونسية متحرّرة.
ولكن ليلى، وكثيرات مثلها علّمتهن الحياة أن يبكين للحظات ويمضين العمر رقصا على خيباتهن وأوجاعهن وينثرن الضحكات على دروب “جبن” بعض الذكور اللذين يعلّقون قراراتهم على شماعات العادات المجتمعية.
وجه المثقف المخفي
“لن يمروا” رسالة توجّهها الكاتبة إلى أولائك الذين تتلوّن آراءهم ومواقفهم، أولائك الذين يعتمدون المبادئ واجهة لنيل الحظوة في المجتمعات التي تنطلي عليها الشعارات الرنانة، وفي هذه القصة تعري مها الجويني وجه المثقف المخفي، المثقف هنا رئيس تحرير المؤسسة الذي يكتب مقالات ويحاضر عن حقوق المرأة والحريات والتحرر ولكنه في المقابل يقايض صحفية للعمل معه، ليلة حمراء مقابل التعيين.
والمثقف جدا لم يكن ليتصوّر أن تلك الصبية التي تكتب عن التحرر وتنتقد الهيمنة الذكورية لا تحتسي الخمر، ربما اعتقد أنها تحاول ان تظهر بصورة أخرى غير الحقيقة التي لا وجود لها إلا في مخيلته.
ومن خلال رئيس التحرير الذي يرى في المرأة المتحررة نديمة الليالي، فضحت الجويني الصور النمطية عن النسويات اللاتي ينتصرن للمرأة وقضاياها.
على أعتاب الرجولة
“لحم الضأن”، عنوان قصة أخرى خطتها أنامل مها الجويني لتتجلى فيه حقيقة النظرة الذكورية للمرأة وتسقط أقنعة وائل اليساري القذافي الذي يدين بدين الحرية والاشتراكية ويخطب في الطلبة عن الحقوق على أعتاب الرجولة.
يولد الذكور ذكورا لكن من الصعب جدا أن يتحولوا إلى رجال، فالرجولة كالوحي لا تؤتى أيا كان، فوائل الذين كان يتودد لروعة رفيقة الاجتماعات العامة وسنده في الاعتقال لمح على رؤوس الاشهاد إلى تخلفها، داعيا إياها إلى الكف عن التظاهر بالحرية فقط لأن رائحة لحم الضان العالقة بفمها ازعجتها حينما عن بتقبيلها.
وحينما يتعلق الأمر بفحولة الذكور فإن حقيقتهم تتجلى عارية، وينفذون كل عقدهم على المرأة مثلما فعل وائل في الوقت الذي احجمت فيه روعة عن أذية مشاعره ولم تشأ أن تجرح مشاعره بحديثها عن رائحة فمها المقززة ذات ليلة، ولله در رائحة لحم الضان التي عرت شخصية وائل.
للانتقام وجوه كثيرة
ليس من السهل على المرأة أن تكون صوتا نسويا غيورا على المرأة ويردد صداه قضاياها، هي لن تتدّخر اي جهد لرد الفعل عاجلا أم آجلا على ما قد تراه إهانة للمرأة، وفي قصة “اللقاء الوطني” تمايلت إحدى شخصيات مها الجويني التي نقلت إليها موهبتها في الرقص وهزت خصرها لتثير ذلك الكاتب الذي طالما سخر من النسويات التونسيات ورماهن بالسطحية.
هو لقاء بين رجل وإمرأة من وطن واحد كان “السكايب” همزة وصل بينهما، لقاء وطني ابتدأ بالكلمات وانتهى بقطرات عرق لن يبددها طعم النبيذ الذي ترشفه الكاتب.
كل ما في الأمر انها كانت ترقص، كانت تتنفس مع كل هزة خصر وتتجدد مع كل انحناءة، ولكن قد يكون الرقص وجها من وجوه الانتقام الكثيرة.
هاجس العذرية
قطرات من الدم تنساب على لحاف أبيض في أول ليلة زواج، هي برهان “شرف” المرأة، اي مجتمع ذلك الذي يحصر “شرف” إمرأة بكل حكاياتها وتجاربها وخيباتها وطموحاتها واحلامها وآمالها في قطرات دم، هي العذرية كانت ولا تزال هاجسا في مجتمعاتنا، هي دليل “العفة” و”الطهر” إذ تعلق الأمر بالمرأة ودليل الفحولة إذ تعلق الأمر بالرجل.
ان تفقد الفتاة عذريتها قد يكون سببا لوابل من العنف، والولع بغشاء البكارة كان موضوع قصة “كلام المصطبة”، ومرة أخرى تفضح الكاتبة تعامل مجتمعاتنا مع جسد المرأة، ينصبون أنفسهم حراسا على غشاء يخصها وحدها ولا يعني احدا في شيء.
“منال” تلك الفتاة البريئة الجميلة التي أحبت احمد ابن الجارة ومارست معه الحب، انكشف سرها لوالدة أحمد التي كانت تمرر الحلوى على جسدها، وهي المقبلة على الزواج، ولتجنب “الفضيحة” ولتسدل رداء “الستر” على “منال”، تكبدت أم أحمد “مشقة” دفع مبلغ مالي ضخم لرتق بكارتها، لإرضاء مجتمع قوامه الزيف والوهم.
باعة الوهم
وفي قصة “عند مزار بومخلوف” تغوص الكاتبة مرة أخرى في معاناة المرأة في مجتمع لا يحترم ذاتها وكيانها، مجتمع يبيع الوهم للصبايا، “أحلام” بطلة القصة متدينة ملتزمة في وقت شددت فيه الرقابة على المحجبات، اعجبت عبد الستار العربيد الذي جعلته الصدفة سلفيا، فتاة لم تكن بغيا ولم يمسسها إنسي قبله.
والد احلام الذي اضنته مصاريف الدراسة وارهقه طرد الفتاة من المعهد كل فترة بسبب الحجاب ووافق على زواجها من عبد الستار،وابتلعت أحلام طعم الوهم وصورت لها نفسها أن الزواج نعيم، زواج دون اي مظهر من مظاهر الفرح، لا طبل ولا رقص ولا أهازيج، هذه العادات لا تناسب صهر العائلة المتدين، الأمر لم يرق لجدة احلام سليلة بومخلوف ولكنها كانت غيضها.
لم تمض ايام كثيرة حتى ايقنت احلام ان النعيم الذي حلمت به ليس سوى جحيم تعامل فيه كوعاء يفرغ فيه زوجها شهوته دون أن يداعبها ولو كذبا، أحلام الزوجة تبعثرت على قارعة عنجعية زوجها الذي تنهال عليها ضربا حتى فرت هاربة إلى بيت أهلها والدماء تقطر من وجهها حتى أغني عليها تماما كما اغمي عليها حينما دخل بها متدين الصدفة، ولكي تفر من باعة الوهم وصدى اصواتهم ولت وجهها شطر الولي الصالح سيدي بومخلوف هناك في الكاف العالي.
المرأة الجسد
يظهر أن المرأة قدرها أن تعامل من منطلق كونها جسدا، نهدين مكورين ومؤخرا بارزة وقوام ممشوق، ويظهر أن التونسية او المغاربية عموما حينما تسافر إلى بلدان عربية شقيقة تكون كمن كتبت على جبينها “هنا يباع الهوى جهرا”.
وفي ” تونسية مزيونة”، نقلت مها الجويني معاناة معلمة فرنسية في لبنان، تخترق الاعين جسدها ويطاردها الطامعون فيه لأن خيالهم يصور لهم انها وجبة جنس سهلة، قد تكون الصور التي تعشش في ادمغتهم وليدة تجارب سابقة، ولكن هل تزر وازرة وز أخرى، هل كل النساء متشابهات؟
لأنها تونسية متحررة، ولأن التحرر في نظرهم يعني بالضرورة علاقات جنسية متعددة، فإنها ستكون محط شك من المحيطين بها وتورد الكاتبة حادثة تلخّص ما معنى ان تكوني إمرأة في مجتمعات سلطوية، ما معنى ان يحضر مدير المدرسة الداية لتكشف عن مدرسة عزباء لانها فقط تعرضت للإغماء هو يعتقد انها حانل، الكاتبة تعري نظرة الآخر الرجل للمرأة ينتهك خصوصياتها.
دين النسوية
وفي القصة الأخيرة بعنوان “العربي الأخير” انتصرت الكاهنة لبنات جنسها، لم تعرض ان تكون عشيقة مؤقتة لكاتب ارادت ان تكون الشرعية أو لا تكون، الكاهنة انتصرت للذات النسوية وللأنا الأنثوية التي تقطر نرجسية ولن تكون المرأة الأخيرة التي تفعل، لم تلق بالا باعجابها لذلك الكاتب الذي اسمالته بكل الطرق، وأدبرت عنه أنى ازفت ساعة الكبرياء.
وفي عاشقة من افريقية تعيد مها الجويني ترتيب التمثلات عن المرأة والرجل في دول إفريقية عربية، لتتنتصر للمرأة، تلك السمراء ذات الشعر المجعّد ذات الجمال الغامض الذي لا يقدر أي كان على تفكيك رموزه، هي تنتصر للمرأة ذات الشخصية الصلبة، المثقّفة التي لا تدير ظهرها لاحلامها مهما كانت العواقب.
والجويني في مجموعتها القصصية تقدّم تصوّرا جديدا للبنية العلائقية بين المرأة والرجل ترتكز على جوهر المرأة بما هي كيان وذات قبل أن تكون جسدا، كيان يرنو إلى الاستقلالية عن مظاهر التدين الزائفة وتجليات الخرافة التي تحبس المرأة في ركن يحاصره هاجس الجسد.