حكمة الذهاب* لمياء المقدم

النشرة الدولية –

أين يذهب الذين نودعهم؟ الذين نتركهم واقفين في أماكنهم ونتحرك إلى الأمام معتقدين أننا ننفض عنا أسماءهم وروائحهم وأجسادهم وكلامهم وأحلامهم وهواجسهم؟

لا وداع مع الحياة، وما نتركه خلفنا سنجده غدا أمامنا، والحق لا وجود لشيء اسمه لقاء أو وداع، فالذين نلتقيهم لا نلتقيهم للمرة الأولى والذين نودعهم لا نتركهم للمرة الأخيرة.

يأتي الشخص إلى حياتك تماما كما يولد الزمن فجأة، من فكرة في رأسك، من خوف أو ألم أو وحدة. يظهر كما لو أنه كان مخبأ خلف الباب ينتظر دوره ليطلع إلى مسرح حياتك. لكن دوره لا يبدأ مع لحظة إطلالة رأسه بل منذ أول الحياة، أول النص الذي يكتبك.

عرفت أناسا وتركتهم ولولا أنني تركتهم لما عرفتهم. هؤلاء الذين يذهبون لا نلتقيهم أحيانا إلا بعد أن يذهبوا. وكثيرون يأتون ولا يأتون أبدا.

وفي مرة واحدة نتعرف على الذين تركونا أو تركناهم في القادم الجديد، نجد ما ضاع منا كأن لم يضع. تلتقي الأعين والأيدي مجددا وتمتلئ الحياة برئة ضخمة تتنفس.

ثم يذهب ذلك الذي وجدناه، لأننا لم نجده أبدا. ونحتار بين ما ضاع وما عاد، ما ذهب وما أتى. ليس لأن الحياة دائرية أو مشوشة بل لأنها تأخذ وتعطي باليد نفسها.

يولد البشر الذين نلتقيهم من فكرة تعبرنا، من حنين أو وحدة ومن الخرف أيضا. ومرة حاصرني الخوف من كل جانب وعذبتني الوحدة فولدت الرجل الذي سوف أحبه لسنوات وكان قويا شجاعا مقداما، يكفي أن أضع رأسي على كتفه حتى أهدأ وأنام. ذهب الخوف إذن ولم أعد أغلق الأبواب والنوافذ عندما يهبط الليل. وتوقفت عن الجري كلما مررت بغابة أو أجمة. ولأول مرة رأيت الأوراق تهتز كنهود صغيرة ناعمة وعثرت على عصفور يحدث أمه.

ويوما بعد يوم اتضح لي أن الرجل الذي أنجبته في هذه السن المتقدمة ليس سوى ذلك الذي تركني في صغري. كنت أنظر وأستغرب تنامي الشبه بين الرجلين. ولم أصدق عيني أبدا عندما وجدته يوما يكتب الرسالة نفسها التي وصلتني منذ عشرات السنين ويضعها في ظرف ويرسلها. كنت قد حفظتها عن ظهر قلب، لذلك لم أجد صعوبة كبرى في تبين حروفها والتعرف عليها مباشرة. ولم أفهم كيف لرسالة وصلتني قبل عشرات السنين أن تكتب اليوم أمام عيني وتوضع في ظرف حتى أنني فكرت أن أتدخل لتعديل جملة داخلها.

وعندما حمل حقيبته وخرج، قلت بألم لكن بحكمة من يتوقع “آه… لقد كان هو كل هذا الوقت”.

أفكر أحيانا في هؤلاء الذين غادرونا بالموت أو الفراق وأتساءل بجدية حقيقية: هل غادرونا حقا؟ ماذا لو أننا أغمضنا أعيننا عن اللحظة التي ذهبوا فيها، لحظة الموت، أو إدارة الظهر، هل يذهبون ساعتها؟

إنها في كل الأحوال لحظة ميتة ولا تكفي لتأخذ بشرا من بشر. إصبع واحد على العين يكفي ليمحوها تماما ويستمر الكون كما كان.

لم أعرف أبدا لوعة الفقدان فأنا لا أفقد أحدا ولكني أفقد نفسي. من يذهب يأخذ شيئا مني دائما، حتى إن الذي بقي ليس كثيرا، ولكنه كاف ليتذكر.

أحب الحياة التي تأخذ وتعطي. حتى وإن أخذت وأعطت الشيء نفسه. في النهاية ما تمنحنا إياه الحياة هو ذلك الذي أخذ منا.

لذلك لا تقل للذاهب “اِبق”، فما دام قد ذهب فلأن شيئا منك يجب أن يذهب في تلك اللحظة، لأن أحدا يحتاجه ربما، لأن نهرا توقف في مكان ما وعليه أن يعود للجريان، لأن عمرا يتعثر. اُترك ما يذهب منك يذهب لصاحبه الآخر.

إذا أردت الذهاب لا تفكر طويلا. اذهب دائما كأنك الريح، كأنك الماء وظله. اذهب فليس أجمل من الذهاب. فقد تجد نفسك ذاهبا في العودة أو تجد ما تركته خلفك ينتظرك في المستقبل.

صحيفة العرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى