الحرب اللبنانية وآثارها على البيئة والناس في معرض تجهيزي* ميموزا العراوي

النشر الدولية –

ضم المعرض الأخير للفنانة اللبنانية متعددة الوسائط ندى صحناوي لوحات كبيرة الحجم معلقة على جدران صالة “تانيت” البيروتية الشاهقة ذات الثلاث قاعات المنفتحة على بعضها.

لوحات ندى صحناوي مشغولة بمواد مختلفة كالأكرليك والباستيل والفحم وأقلام الطبشور دخلت إلى بعضها مقتطعات من صور فوتوغرافية وكتابات وإشارات أفقية وعمودية مقتضبة ذكّرت بكتابات مُبهمة بخط يد سجناء يعدّون أيامهم نقشا أو حفرا على الجدران.

 

نص ندى صحناوي الفني يملك طابع الجرح الطازج مع طمس الوجع المباشر الناتج عنه

وإضافة إلى ذلك وظفت صحناوي في أعمالها المعنونة بـ”كم، وكم بعد؟” كتابات لعناوين وصحف متفرقة بعضها غير مقروء. كما شمل المعرض أشياء من قبيل ساعات ومجسمات وعرضا لشريط فيديو ذكّر بما قدمته الفنانة سابقا من أعمال تجهيزية تدور حول الحرب اللبنانية وآثارها.

كما عثر زائر الصالة على غزارة في العناصر الموظفة رمزيا في المعرض كخزانات الوقود ودواليب السيارات، لتكثّف ما أرادت الفنانة التعبير عنه، وهو كما تقول “نداء للمصالحة والتصالح.. المعرض هو قصيدة للبنان البلد المشظّى والمُغتال”.

ليست هي المرة الأولى التي تناولت فيها الفنانة اللبنانية ندى صحناوي موضوع الحرب اللبنانية ولن تكون على الأرجح الأخيرة، فلدى جيل الحرب اللبنانية فيض من الأفكار والمشاعر التي لا تنضب ومحورها الحرب بكل ما تعني هذه الكلمة من مناخات شخصية وأحوال عامة، وتحوّلات لا يغيب عنها أي أسلوب من أساليب التعبير الفني وصولا إلى الديجيتالية البحتة.

ومعلوم أن بعض الفنانين التشكيليين اللبنانيين الذين لا ينتمون إلى جيل الحرب عالجوا بدورهم موضوع الحرب، وهؤلاء ينتمون، إذا صح التعبير، إلى مجموعة صور فوتوغرافية وذكريات منقولة أعادوا إحياءها مُلقّحة بخيال مهيض.

في المقابل، يبقى نص فناني جيل الحرب اللبنانية أكثر بلاغة وتنوّعا، ونص ندى صحناوي الفني هو واحد من أهم تلك النصوص الفنية، فهو يملك طابع الجرح الطازج مع طمس الوجع المباشر الناتج عنه.

وربما لأجل ذلك جاء معرضها الأخير تأكيدا على هذه القدرة الذهنية لدى فناني جيل الحرب في صياغة نص مفهومي “بارد” تعبر فضاءه بضعة غيوم غنائية ماطرة اعتادت على أن تهطل بخيباتها دون أن تتبلل بها.

Image may contain: 1 person

وثمة ظاهرتين برزتا بشدة في معرض الفنانة اللبنانية المخضرمة، وكادا أن يؤلفا نقلة نوعية في مسارها الفني.

الظاهرة الأولى: تمحورت حول تصميمها لمعرض فني سرد وبإصرار استمرارية الحرب في لبنان وبوجوهها المتعددة: البيئية والاجتماعية والأمنية والسياسية والنفسية، حيث لم تظهر في المعرض نتائج الحرب أو غياب الذاكرة الجماعية بقدر ما ظهرت إرهاصات الحرب وخوارقها.

والخارق فيها على الأرجح تمحور تفصيلا حول تلك الاستمرارية المقيتة للحرب التي تخطّت الأربعين عاما، وهي تتحضّر للمزيد من السنوات مع اشتعال المنطقة بأزمات خانقة وتحوّلات عظمى اعتاد لبنان أن يكون دائما جزءا منها، ولاسيما جزءا من كوارثها وليس أفراحها.

أشارت الفنانة اللبنانية إلى تلك المعايير والأفكار باستخدامها للون الأحمر الذي لم يهدر طاقته الزمن، وباستقدامها لمجسمات كثيرة علقتها على جدران الصالة لخزانات وقود وأشكمانات سيارات ملوثة للبيئة.

ومن ناحية ثانية: يشعر زائر المعرض، لاسيما إن كان هو أيضا من جيل الحرب، أن الفنانة أخذت بيده من جديد إلى الساحة القاتمة التي دمرت جزءا من حياته ليس لتذكره بها أو بآثارها المُكتملة في حياته اليومية، بل لكي تؤكد له و”بدم بارد” أن ما كان “حربا” لا يزال مستمرا ويتفنن الآن في إعادة صناعة ذاته بأشكال وحوش جديدة هي أزمات: التلوث والفساد والكهرباء والماء والأمن وغيرها.

وعلقت الفنانة اللبنانية ندى صحناوي في معرضها جنبا إلى جنب و”كرّرت” تعليق المجسمات الكئيبة: دواليب سيارات وعوادم سيارات مُحطمة وخزانات وقود وأشكمانات على جدران الصالة بعد أن سجّتها تحت طلاء أبيض أحالها إلى أيقونات حيّة: فالجرح حيّ، لكن الشعور به قد تجلّد.

أما أولياء الحرب اللبنانية فما زالوا حاضرين بهاماتهم النتنة خلف الأعمال الفنية مع اختلاف بسيط: هم ذاتهم، ولكن قد اشتعل الشيب في رؤوسهم كما اكتسح الطلاء الأبيض سواد الكوتشوك الملوث وصدأ الآلات الملوثة.

الأفظع من كل ذلك أن السؤال الذي بدا أن الفنانة تطرحه في معرضها عبر عنوان “كم، وكم بعد” هو سؤال مُجاب عليه مُسبقا، مُجاب عليه في اللوائح/ اللوحات الشعائرية الكبيرة التي وثقت كالندوب المرتعشة تعداد الأيام القاهرة التي توقفت عن التزايد أو التناقص في أوائل التسعينات من القرن الفائت. توقفت ولكن كما تتوقف الساعات لإعلان حالة التكرار السقيمة إلى أجل غير مُسمى.

وكانت في المعرض سيدة للأعمال الفنية جميعها: لوحة/ لائحة مشغولة بشكل طاغ بالأسود والأبيض، لوحة تجسد “تعدادا” للأيام كمثل لوحات أخرى في المعرض، لكن ما ميز هذه اللوحة عن غيرها أن صقيعا كاملا قد اجتاحها جاعلا الأيام المعدودات أياما كاسدة وتالفة لم تعد تعني لأحد شيئا بعد تتالي الكوارث في لبنان والمنطقة العربية ككل. لوحة مُسخت فيها أيام الحرب أقزاما ضئيلة هي بأشكال قطع من قش نجا من الطوفان، فقط، ليؤكد على حدوثه.

وأمام هذه اللوحة تفاجئ الزائر بنفسه وهو يدندن بتهكم غريب مقطع من أغنية وردة الجزائرية “عد النجوم، عد البشر، روح وتعالا تلاقيني هنا، تلاقيني أنا..”. إنه الموت العابر.. الموت العادي جدا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى