«العاشق الأخير» لفاطمة الناهض.. مقاومة الحرب بالحب
للكاتب شريف صالح
العرب قبل غزو صدام للكويت ليسوا هم العرب بعد الغزو. شروخ عميقة وانكسارات طالت الدول والشعوب، وجراح عميقة زلزلت القلوب. فأسوأ المستحيلات قد وقع في صيف أغسطس عام 1990
روايات ومسلسلات وأفلام كثيرة قاربت محنة الغزو، مع الاقتراب من ذكراه الثلاثين، لكن الروائية فاطمة الناهض كان لديها ما تقوله عن تلك الأيام السوداء في أحدث رواياتها «العاشق الأخير» الصادرة عن دار «إي – كتب. لندن» وتعد السادسة بعد «خط الاستواء» و«بيت البحر» و«دنيا» و«ن. ك» و«القفلة».
وعلى عكس معظم الكُتاب، لا تميل الناهض إلى الظهور، ولا إجراء حوارات معها، وتفضل أن تكون علاقة القارئ بكتبها فقط. لكنها خصت «النهار» ببعض الردود المتعلقة بالرواية.
سألت فاطمة عن سبب اختيار فترة غزو الكويت للكتابة عنها فقالت: أردت الكتابة عن قصة حب قديمة تعن عليّ من وقت لآخر، مازال أبطالها يعيشون بيننا وإن لم يصدق الكثيرون أنهم أحياء، لكنني وجدت نفسي في مستنقع الحرب، بسبب هؤلاء الأبطال، الحرب التي اجتاحت حياتهم وأحلامهم وأحبّتهم.. ومستقبل أيامهم وغيرتها إلى الأبد، وبسبب هذه الخلفية الظالمة لقصة الحب تلك، كان علىّ أن أقرأ وثائق عن الحرب لم أكن أحب أن تمر علىّ.
تعاطف
في سردها مثلما في شعرها، لا تضحي الناهض بلغتها الشعرية، مثلما لا تتنازل عن قيمة الإنسان والاقتراب من جوهره الكامن وراء التعريفات.. وراء الاسم والجنسية والمهنة.
تزيح الغبار والأنانية، وتعيد الاعتبار والتعاطف لكل إنسان، باحثة عن ذلك «الحب» السامي، والمستحيل، والصامد، والغامض. الحب المعلق وسط غموض وألاعيب الزمن، الذي اكتمل يومًا أو لم يكتمل.
لذلك جاءت «العاشق الأخير» كفعل مقاومة للحرب بلغة الحب. لم تورط الكاتبة نفسها في الأحداث الكبيرة. ليس ثمة ذكر للساسة الذين صنعوا تلك اللحظة الصعبة، ولا قرارات الأمم المتحدة، إنها تقرب عدستها السردية من تفاصيل دقيقة جدًا لقطعة خبز وكوب شاي وامرأة من عامة الناس تمشي بصعوبة مغادرة بيتها إلى المخبز. وعما إذا كانت تعمدت الابتعاد عن الأحداث الكبرى ومواقف الساسة أجابت: بل كافحت بقوة لأفعل ذلك، فهذه قصة حب وليست قصة حرب. وشطبت ما لا حصر له من الصفحات فقط لأحمي قصة الحب من هيمنة الحرب عليها بشكل كامل، فأنا في النهاية لا امتلك امتياز التجربة لأنني لم أكن هناك.. وليس لدي سوى التفاصيل الإنسانية البسيطة وخيال الكاتب وعين القلب التي تنفذ إلى ما لا يُرى.
وهكذا اختارت الناهض الانحياز للسرديات الصغيرة، كي تعيد رؤية الصورة الكبيرة. فبدأت وانتهت بقصة الحب النادر بين «غنيمة ومبارك».
توثيق ومعايشة
إن كتابة نص استنادًا إلى وقائع معروفة يفرض سؤالًا ما إذا كانت الرواية ثمرة تجربة حقيقية عايشتها الناهض.. أم أن الأمر كان مجرد تحضير جيد؟
تقول الكاتبة: هذا جيد إذا نجحت في ترك انطباع لدى القارئ بأن العمل تجربة ذاتية.. فهذا يعني أن الرواية كتبت بإتقان مقارب للواقع، لكنها ليست تجربة شخصية.. ولو كانت تجربة حقيقية ربما كانت أكثر عمقا وعنفا وجرأة.. والتجربة تمنح صاحبها امتياز المعرفة الأولية.. فبدل أن يسأل، سيكون عنده الخبر اليقين لأنه هناك.. لقد عملت على الرواية لثلاث سنوات قبل أن أفرج عنها.. واضطررت لشطب ربعها تقريبا لأخفف على القارئ عبء الاستطراد والمتاهات التي تقود إلى أخرى.
إذن الأمر كان مجرد تحضير جيد؟ أجابت فاطمة: أجل.. قرأت كثيرًا وشاهدت ساعات لا حصر لها على اليوتيوب.. وأفلامًا على الإنترنت.. وقابلت أشخاصًا لا أعرفهم.. ومعارف لم نتواصل منذ زمن بعيد.. وعدت لمذكراتي أيام نزوح الكويتيين الى دول الجوار.. كل ذلك ليكون ما أكتبه ليس مجرد تخييل عائم في الهواء بلا جذور.. ولا أساس. وهكذا التحمت قصة الحب والحرب لتخرج «العاشق الأخير» إلى النور.. ولم أقتنع بالافراج عنها إلا قبل شهرين تقريبًا.. إذ لم يعد بإمكاني أن أفعل لها أكثر.
وعما إذا كانت اطلعت على سباعية «إحداثيات زمن العزلة» للراحل إسماعيل فهد إسماعيل والتي توثق لمحنة الغزو أجابت الناهض: مع الأسف لم أقرأها. وهذا تقصير فادح يدعو للندم.. فاسماعيل فهد إسماعيل مرجع أساس عميق لا يمكن تجاوزه. كان اعتمادي الأساسي على لقاءات بأفراد عاشوا ظروف الاحتلال.. ومواد وثائقية ومذكرات عن الحرب.
استدعاء مؤلم
تميل النفس إلى النسيان، وترك ما يؤلمها في عتمة سحيقة، فما الذي دفع الكاتبة إلى استدعاء محنة الغزو ومآسيها رغم قرابة ثلاثين عامًا؟
تقول فاطمة: هناك مفاصل في حياة الإنسان لا تسقط بالتقادم..يحاول أن يتجاوزها لتستمر الحياة.. لكنها تسكن في لا وعيه تنتظر لحظتها المناسبه.. ولعل هذا الغزو من ضمنها. بمرور الزمن.. تهدأ الآلام.. وتهجع الجروح.. وعندها يمكن النظر الى الأحداث من كل الزوايا.. فتظهر لنا أمور لم تخطر على بالنا عندما كانت الجروح طريه. دون أن يعني ذلك أن الناس وصلوا مرحلة النسيان.. نحن لا ننسى كل شيء .. ولكن ما يكفي لنعيش بسلام. وبالضرورة من عاش أوقات الغزو والاحتلال واقعًا، ليس كمثل من يكتب عنها من خلال البحث والتقصي.. وأنا لم أعش التجربة شخصيا.. لكن من قابلتهم بدوا أكثر قدرة على النظر إلى الزوايا الأخرى التي أتحدث عنها.. بعد مضي كل هذه السنين.
إضافة
سألت فاطمة الناهض عما يكون أن تضيفه روايتها إلى مسلسلات وأفلام وروايات تناولت محنة الغزو، فأجابت: لا أعرف حقيقة مسلسلات تناولت الغزو.. كل ما شاهدته هو أفلام وثائقية.. لكن أظن أن الشيء الذي يتم تجاوزه بسبب هول ما حدث وصدمته وآثاره المدمرة على حياة البشر، هو العلاقة بين الناس. فحتى الذين كانت تربطنا بهم علاقات صداقة أو عمل.. صرنا نتوجس منهم كأن لهم مسؤولية مباشرة بالغزو.. رغم موقفهم الرافض لما ارتكبه نظامهم على أرض الكويت. صارت العلاقة هشة وفي منتهى الحساسية.. وانهار جدار الثقة بسبب الجرائم الوحشية التي حصدت الأرواح والمشاعر قبل أن تحرق الأرض قبل انسحابها الدموي.
«غنيمة ومبارك»
«العاشق الأخير» رواية عن «الحب» الذي قطعت الحرب أوصاله بغتة، كما يشير استهلال الرواية:
«الذين ناموا باكرًا في الليلة السابقة، التبس عليهم الأمر حين صحوا، وربما ظنوا بأنهم مازالوا يعانون من كوابيس البارحة، فما اسيتقظوا عليه، كان صعب التصديق، حتى في خانة الأحلام السيئة».
هكذا، ودون سابق إنذار، وجدت «غنمية» – بطلة الرواية – نفسها، وحدها في البيت مع أختها الصغرى «ليلى» التي ربتها مع أولادها. كانت ليلى مصابة بالحمى، لذلك أصرت «غنيمة» على البقاء معها ورعايتها، فيما غادرت الأسرة إلى الخارج لقضاء العطلة الصيفية المعتادة.
ولم تكن «غنيمة» امرأة صغيرة السن، فهي تعاني متاعب في الركبة، ولم تنجب إلا بعد مرور سنوات طويلة على زواجها من «مبارك» الرجل الذي أحبته بكل حواسها.
لا تختلف شخصيتها عن أية امرأة كويتية تعرف كيف تصون بيتها وحبها وقيمها. لا شيء استثنائي سوى في أنها لم ترزق بالأولاد إلا بعد نبوءة أو دعوة صالحة دعتها لـ «سليمة» المرأة العراقية التي التقتها ذات يوم في الحرم الشريف. آنذاك تاه «خليل» الصغير ابن «سليمة» وعثرت عليه «غنيمة» فردته إلى أمه التي دعت له دعوة قُدر لها أن تكون مستجابة، وتربط أواصر المحبة بين المرأتين الكويتية والعراقية.
امرأتان جمعهما فضاء «طاهر» وربط بينهما «الطفل» كرمز للأمل والمستقبل. ثم ربط بينهما ثالثًا تلك النخلة التي أرسلتها سليمة هدية من العراق، كي تعيش في حديقة منزل غنمية، وتحمل اسم «سليمة» نفسها.
لكن الحرب قلبت الأشياء والمعاني رأسًا على عقب، فالفضاء الطاهر امتلأ بالغضب والكراهية والدموع.. والطفل «خليل» ظهر في بيت «غنيمة» جنديًا محتلًا.. والنخلة السخية الكريمة باتت تذكر بالعدو، ودفعت غنيمة إلى إعمال الفأس فيها لانتزاعها من الأرض.
يومًا ما قالت «سليمة» العراقية لابنها «خليل» إنه غنيمة الكويتية هي أمك الثانية. وجاء «خليل» جنديًا محتلًا، وفي الوقت نفسه حاول تهريب أمه الثانية من المحنة التي كانت تشتد يومًا بعد يوم. فهل تقبل «غنيمة» عرض تهريبها على من يعتبره ابنها.. أم إن ذلك بطريقة ما، خيانة لبلدها وتعاون مع عدو محتل!
لم يكن الاختبار سهلًا، خصوصًا أن جارتها النمّامة المتلصصة، والتي تكرهها أشاعت أن «غنيمة» تتعاون مع المحتل!
وفي اللحظة التي سعى «مبارك» للعودة متنكرًا إلى الديرة لإنقاذ حبيبة العمر، تختفي «غنيمة» فجأة.. وتتحول إلى لغز.. في وقت كان الأسر والسجن والتعذيب والاختفاء، أمرًا معتادًا تحت سلطة الاحتلال. أين ذهبت غنيمة؟ تساءلت أختها ليلى.. وسألت كل المعارف.. وعاد «مبارك» وبدأ رحلة بحث مضنية.. تابع كل القصص.. وناقش كل الاحتمالات.. في أحداث سريعة ومتدفقة.. سافر إلى العراق.. زار السجون.. نشر إعلانات في الصحف.
وكان الزمن يمر سريعًا، وأصبح الغزو ذكرى مر عليها ربع قرن، ولم يظهر أثر لـ «غنيمة».. كل القصص أفضت إلى لا شيء.. قالوا إنها ظهرت في الحرم.. وقيل كانت تساعد المقاومة.. وقيل كانت تزور السجناء.. بدأت وكأنها أسطورة لا يعرف أحد على وجه الدقة أين انتهت! هل فقدت الذاكرة؟ هل تعيش عجوزًا في الثمانين في دار مسنين ولا أحد يعرف هويتها؟
تذهب فاطمة الناهض بالقارئ في ألعاب سردية وقصصية بارعة، تخطف الأنفاس.. وتدفعه للتعاطف مع حزن مبارك العميق على رفيقة الدرب.. يفتش معه بلا كلل ولا ملل.
ومثلما بدأت القصة هناك في الحرم بحكاية «الطفل خليل» تنهيها الناهض أيضًا بـ «خليل» الذي صار رجلًا يحمل جنسية نرويجية، والذي ظهر من الغيب فجأة كي يقول شيئًا لـ «مبارك» العجوز الثمانيني، يغلق لعنة السؤال الذي بدد عمره بحثًا عن إجابة له: أين اختفت غنيمة؟
وبصفة عامة اتسم أسلوب الكاتبة بالسلاسة والإيقاع السريع، والمهارة في رسم مختلف الشخصيات، وبقدر كبير من التعاطف مع أخطائها وهفواتها. لكنها نجحت تمامًا في تصوير قصة حب نادرة.. وفي رسم شخصية غير قابلة للنسيان اسمها «غنيمة».
سألت فاطمة الناهض عما إذا كانت قصة حب غنيمة ومبارك مثالية فقالت: لا بد أن يكون هنالك في مكان ما.. من يشبه مبارك.. أو غنيمة.. أو الحب الذي جمعهما.. وإن لم يكن.. فلا بد أن نتخيله.. وأنا فعلت أكثر من ذلك بقليل.
الجراح القديمة
لا شك أن الحرب شكلت جراحًا عميقة بين شعبين تجمعهما أواصر الجيرة والمصاهرة والنسب.. فهل آن أوان لتجاوز الماضي؟ سألت الناهض: بالنظر إلى الحضور الطيب لبعض الشخصيات العراقية.. كأنك تودين القول إن الناس العاديين في البلدين هما ضحايا قرار سياسي مدمر ولا ذنب لهم فيه؟ فأجابت: هؤلاء ناس عاديون.. يمكن تواجدهم في أي مكان وأي درجة من أي سلم اجتماعي .. وهم في الغالب ضحايا أطماع ليست لهم . لقد تم تهميشهم واستغلالهم وتحطمت أحلامهم وإمكانات دولتهم وشتتهم حروب لا يعلم أكثرهم لم كانوا يخوضونها ويفقدون أحبتهم فيها. وحين تصادمت حياتهم بحياة جيران لم يحملوا لهم السوء، وجدوا أنفسهم في وضع لا يستطيعون تفسيره.. ولا كيف يحتملونه..أو حتى يعتذرون عنه.. وقد أصبحوا هدفا للكراهية والتوجس من مجرد وجودهم.
حبكة مشوقة
تمتعت الرواية بلغة بصرية وحبكة مشوقة، لكن النهاية ظلت مفتوحة ومثقلة بالأسئلة، وعندما سألت الكاتبة: ألا تبدو النهاية غامضة.. لا تقطع بشيء بخصوص مصير «غنيمة» المجهول؟ أجابت: أعتمد على فطنة القارئ.. على حبه ليكون جزءًا من العمل.. يختار أين يقف منه ويتفاعل بطريقته الخاصه.. ويطلق خياله من أسر التوقع المفترض والنهايات المحددة مسبقًا.. أمنحه هنا مساحة خاصة في النص يكتبها بنفسه. بالقناعة التي تشعره بالراحة.
فيلم أو مسلسل
إن حبكة الرواية وإيقاعها المتدفق يجعلانها صالحة تمامًا، لتكون مسلسلًا أو فيلماً ناجحًا عن محنة الغزو وتداعياتها على الناس العاديين، الذين يسقطون عادة من دفاتر مؤرخي الحروب والنكبات.
لذلك ختمت هذه الدردشة مع فاطمة الناهض بهذا السؤال: هل تتوقعين أن تتحول الرواية يومًا إلى فيلم أو مسلسل.. خصوصًا مع تمتعها بلغة بصرية عالية وسرد درامي مشوق؟
أجابت: لا أعلم. أنا أكتب فقط. ما يأتي بعد ذلك من اهتمام بما أكتبه.. سيكون حتما نوعًا من التقدير لـ«العاشق الأخير».