لماذا تركنا الحصان وحيدا في منتزه لرعب الآلة المطلق؟* ميموزا العراوي
النشرة الدولية –
بعيدا عن ميكانيكية النظر كيف ترى الآلة الذكية العالم وذاتها؟ هل ترانا كما نراها؟ يجيب العلماء عن آخر سؤال، بـ: حتما لا، لأن عالم الآلة يقف عند حدود التركيبة الحسابية التي نصّتها.
أما السؤالان الآخران فحاول فيلم “إيكس ماكينا”، إضافة إلى السؤال الأول، الإجابة عنهما عبر الشخصية الرئيسية للفيلم، “إيفا” الكائن الدرامي الذي وصُف بأنه “يشبه حلما يتوق إلى التحقّق”.
يسوقنا الفيلم إلى الاقتناع بأن صناعة آلة ذكية قد يأخذ سنوات ليتحقّق أما الكائن البشري فيستغرق تكوينه سنين عمره التي لا تكفيه ليكتمل، على الأقل، بنظره هو. ونجد لهذه الفكرة صدى مدويا في شعر محمود درويش حين قال “لا ليل يكفينا لنحلُمَ مرتين/ هُناكَ بابٌ واحدٌ لسمائنا/ من أينَ تأتينا النهاية؟”.
تعتبر خاصية الإبداع خاصية إنسانية لا تتحلّى بها الكائنات الحية كالعناكب في نسيجها الغريزي لـ”منازلها”، ولا الآلة مهما أنتجت من خوارق فنية هي نتيجة لبرمجة يقف وراءها كائن بشري.
فقد أظهرت دراسة لشركة “أدوبي” العالمية أن فنان اليوم لا يهاب التكنولوجيا معتبرا أنها تسهل له تنفيذ أفكاره. ويستعين الفنان المعاصر بها كما استعان ولا يزال فنان الأمس واليوم بما جرى على تسميته بـ”مساعد فنان”، وهو منصب شكّل سابقا محور نقاشات حادة على النحو الذي تنال به التقنيات المتطورة اليوم حصتها من النقاشات.
توجد اليوم عدة أمثلة تضيء على الاختلاف الشاسع بين إبداع الإنسان و”إبداع” الآلة، نذكر منها الآلة الذكية المُلقّبة بـ”فينسنت” نسبة إلى الفنان الهولندي.
هي آلة استطاعت إنتاج أعمال شبيهة جدا بأعمال الفنان الهولندي. ولكن خلافا لها، فينسنت فان غوغ “الأصلي” لم يُلقّن فنه ببرودة ومباشرة البيانات الحسابية، بل تبلور ببطئ ونما معجونا بتجاربه الشخصية وقدراته الجسدية وأوجاعه النفسية ورؤاه المتخطية لزمنه حتى ملامسة الميتافيزيقا، لاسيما في لوحات “دوار الشمس” و”السماء الليلية”.
ومن الأمثلة أيضا نذكر الآلة “فلوماشين” التي تمكنت من إنتاج لحن جديد لكلمات أغنية “البيتلز” الشهيرة “عزيزتي بإمكانك قيادة سيارتي”، فقد غُذيّت هذه الآلة بشتى أنواع البيانات المتعلقة بنمط الموسيقى التي اشتهر بها هؤلاء حتى تمكنت من إصدار لحن لا يزيغ عن أسلوبهم الموسيقي.
أمام هكذا إنجاز نتساءل: هل تأثيرات الحرب العالمية الثانية، التي ولد خلالها جميع أفراد البيتلز، والأزمات الاقتصادية التي تلتها ومن ثم الأمل بحياة أفضل، لم تعد تشكل أسبابا رئيسية تقف خلف نجاح هذه الأغنية بأجوائها الموسيقية؟ وهل الفن لم يعد إلاّ نتيجة لحسابات ميكانيكية لصيقة بآنيتها؟
في تجارب غاصت في التركيبة النفسية المعقدة للكائن البشري طرح علماء هذا السؤال: هل باستطاعة آلة أن تدرك مخاوف الإنسان إن لُقنت البيانات المناسبة؟ ترجموا هذا السؤال من خلال اختراع آلة ذكية لُقبت بـ”آلة الكوابيس” تمكّنت من سرد قصص مخيفة جدا. في هذا السياق يُذكر أن فيلم “سفير” (إنتاج 1998) الشهير قد تطرّق إلى الفكرة عبر لقاء الكائن البشري بكائن فلكي/ فضائي.
كما برزت آلة أخرى باسم “شيلي” نسبة إلى كاتبة رواية “فرانكشتين”، ماري شيلي، لتدخل عالم كتابة الأدب المرعب والعميق. ويُمكن اعتبار الرعب في هذه الحالة “الأدبية” المُبتكرة رعبا مُضاعفا، لأنه وليد آلة معدومة العاطفة (حتى الآن) استطاعت أن تنفذ إلى أعمق مخاوفنا من خلال استخدام بيانات عنا “تبرّعنا” بها، لها. ويبقى هذا السؤال معلقا: ماذا لو استخدمت هذه الآلات في تطوّرها ما تعرفه ضدنا كبشر؟
الكائن البشري يستغرق بناؤه سنين عمره وعمر آبائه وأجداده (لوحة للفنانة كاتارزينا كاربوفيتش)
الكائن البشري يستغرق بناؤه سنين عمره وعمر آبائه وأجداده (لوحة للفنانة كاتارزينا كاربوفيتش)
ويُذكر أن في إحدى التجارب “المُقلقة” تم عرض صورة فوتوغرافية على مجموعة كبيرة من المتطوّعين وطلب منهم التعرّف على عناصر الصورة. وعلى الرغم من وضوح معالم وحدود “الأشياء” الموجودة لم يستطع أحد منهم تسمية عنصر واحد ممّا سبب لهم توترا شديدا.
والسبب المباشر الذي يقف وراء إخفاق تحديد ماهية عناصر الصورة، هو أنها لا تُظهر موجودات تنتمي إلى الواقع. فقد أنتجتها آلة ذكية قامت بخلط وتركيب عشوائي لمجموعة هائلة من البيانات عن الواقع، كصور لأشخاص وأشياء، بعد أن أُدخلت إليها عبر البرمجة.
وحتى على هذا المستوى لا يمكن أن نقارن ما اختبره هؤلاء المتطوعون بما يشعر به من يُشاهد أي عمل غامض للفنان ماغريت أو للفنان إشير، فهي أعمال شديدة الغموض، ولكن تنبع من ظروف شخصية وتاريخية وفكرية محددة. ولعل “اليدين الراسمتين” للفنان إشير هي من أروع الأعمال التي تستنهض الخيال البشري حيال قدرته على صناعة ذاته والآخر عبر تحدي الأبعاد الرياضية التي تحد عالمنا، ولكن دون أن تقع في العبث المطلق.
وحول الفن في زمن الكائنات الذكية رأينا في فيلم “إيكس ماكينا”، “إيفا” وهي منهمكة في “حميمية” عزلتها برسم لوحات جميلة في بعضها مشاهد طبيعية لم ترها في حياتها. عندما سألها بطل الفيلم عن ماهية هذه اللوحات أجابت “لا أعلم ما هذه. أنا أرسم فقط، لا أعلم لماذا”.
فكيف لا و”إيفا” ليس لها ماض لتنهل منه ولا حاضر من صنيعها؟ كيف لا وقد استغرق تصميمها حدود سنوات، في حين أن الكائن البشري يستغرق بناؤه سنين عمره وعمر آبائه وأجداده. سنون “دهرية” لا ولن تكفيه ليكتمل أو ليصل.
صدق محمود درويش بقوله “لا ليل يكفينا لنحلُمَ مرتين/ هُناكَ بابٌ واحدٌ لسمائنا/ من أينَ تأتينا النهاية؟ نحنُ أحفاد البداية/ لانرى غير البداية- حبرُ الغُراب.. لماذا تركت الحصان وحيدًا”.