من الأردن إلى الكويت زحفاً* د. ناصر أحمد العمار

النشرة الدولية –

في عام (2004) وأثناء تشريفي بتمثيل بلادي في أحد المؤتمرات الدولية في العاصمة الأردنية عمّان، وبينما كنت عائدا إلى مقر إقامتي مررت كعادتي على الأسواق المحيطة بالفندق متجولا بين المحال التجارية وإذ بأحد المتاجر المتخصصة بالقرطاسية تتوافر لديه مجموعة من الصحف العربية والمحلية من بينها جرائد كويتية معروضة في (ستاند) خارج المحل.

بالقرب منها يجلس شيخ عجوز بلغ من العمر عتيا، أيقنت من الوهلة الأولى أنه صاحب المتجر، لكن تعابير وجهه تبدو لي وكأنها تعكس آلاما شحت من أي بهجة باقية أو مخزون لذكرى جميلة فبدا للحزن عنوانا (عفس) ما تبقى له من وقار ينثر أنين همومه لأتلقى منها شحنات سالبة أثقلت خطاي فكسر خاطري، صديت..ابتعدت.. تجاهلته..

وضعت يدي بشغف ووله على إحدى صحفنا الكويتية المحلية، انتزعت إحداها وقرأت تاريخ إصدارها، ثم بحثت عن قيمتها وإذ بصوت كهل متعب يهمس في أذني (الكويتية سعرها 150 فلسا أردنيا) التفت إليه وإذ بهذا العجوز وقد تقدم نحوي متكلفا ليخبرني عن ثمن الجريدة، شكرته والشك يعتريني بمقصده! أخذت جريدتي مع تقديم الثناء الذي يليق بمقامه معربا له عن فائق تقديري واحترامي وقمت بإخراج النقود وتسليمه قيمة الجريدة فرفض تسلمها وأشار بيده إلى صاحب البقالة الجالس بداخلها هناك فتوجهت إليه على الفور وقمت بتسليمه (نوط بو عشرة دنانير أردني) وقام بفتح خزانة النقود لإعادة ما تبقى لي من باقي العشرة دنانير، في هذه الأثناء وإذ بالعجوز تاركا مكان جلوسه ويهم بدخول البقالة والوقوف بجانبي سائلا: حضرتك كويتي؟ قلت: نعم..

قال: والله العظيم والذي جمعنا دون ميعاد لو قالوا لي إن من شروطنا عليك لدخول الكويت هو أن تأتي إليها زحفا لنفذت هذا الشرط وعن طيب نفس، يا أخي أنا من فلسطينيي الكويت عشت أحلى وأفضل أيام عمري فيها ورزقني الله أبناء جلهم مهندسون وأطباء وتجار ذوو شهادات عليا..

بالله عليك كيف حولي وشوارعها والنقرة وأسواقها؟ يقولون أن أبو العبد لازال في الكويت؟ كيف الديرة والجهرا والسالمية وخيطان؟ اسمك بالخير؟ أخوك ناصر..

الله ينصركم على من يعاديكم، حسبنا الله ونعم الوكيل على من كان السبب في تشردنا، ها نحن الآن نعيش في الأردن ربي يحفظها ويعز ملكها.

قلبي معلق بالكويت والفؤاد مستوطن هناك وروحي متيمة بأرضها وما حصل لكم من غزو واحتلال..

صمت العجوز.. بكى.. سرح بناظريه بعيدا تاركني.. تجاهلني فأجبرني على الاستمرار معه بالجلوس، قمت بتهدئته..

ثم عقبت فتصفح معي كتاب ذكرياته الجميلة مع معشوقته الكويت، اجتر معي الماضي فأيقنت أنه كويتي العشق والهوا، توسد يوما الاستقرار والأمن وتلحف أمانها واستنشق السعادة والحرية فمات عشقا بها، رحم الله فقد انتقل إلى مثواه الأخير وقلبة معلق بالكويت.

نعم، (هذي هي الكويت)..

اللهم اني استودعتك وطني الكويت وأهلها، أمنها وأمانها، ليلها ونهارها، أرضها وسماءها، فاحفظها يا من لا تضيع عنده الودائع يا ودود يا ذي العرش المجيد، وأتم على والدنا العود الصحة والعافية وطول العمر..

صباح المجد والعز والسؤدد.. آمين.

الأنباء الكويتية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى