موت الذاكرة* لمياء المقدم

النشرة الدولية –

الذاكرة شيء ثمين كما نعرف، لولاها لما استطعنا أن نستعيد وجوه وأعين من أحببنا، ولولاها لما عرفنا من نحن ولا كيف وصلنا إلى هنا. لكن الذاكرة مؤلمة أيضا في أحيان كثيرة، بالأخص لأولئك الذين يحيون في قلوبهم، الذين لا ينسون أبدا. هل الذاكرة في القلب أم المخ؟

ودائما كنت أتساءل ما الذي يجعل الذاكرة حية لدى البعض على الدوام، حتى أنك تكاد تتخيلها عضوا كباقي الأعضاء. أفكر مرات في أن الجزء الخاص بالذاكرة في الدماغ لا بد أنه عضو مكتمل وليس مجرد جزء بسيط،، عضو نابض كالقلب.

هناك من ينسى بسهولة وآخرون لا ينسون أبدا. النسيان فضيلة، لأنه يجعلنا نستمر، وهو ميزة في البشر السعداء.

لكن “الذاكرة ثقيلة” كما تقول الشاعرة الروسية الشهيرة آنا أخماتوفا، ثقيلة إلى درجة يكاد رأسك يميل لها، أو يقع.

لماذا نتذكر؟

ربما لأن كل تذكر هو ولادة جديدة، لنعيش الأشياء مرة فمرة، لنفهم، لنتعلم، لنستوعب. تشبه الذاكرة، من هذه الناحية، المدرس الذي يكرر أمامنا المقرر. يشرح ويشرح حتى لا يفوتنا أن نفهم.

لكن ثقل الذاكرة مرتبط أيضا بثقل ما نحياه. من عاش عميقا، من صادق وسافر وأحب وقرأ وجرب وتخلى واستغنى ونام في عراء نفسه، داهمته الذاكرة بأشيائه كلها، ورمتها في وجهه، ومن عاش على السطح عائما،  لم تحبل ذاكرته بغير الفضاء.

نسمع عن أناس يعيشون في ذاكرتهم. هؤلاء الذين توقف جسدهم عن الاستجابة لأحلامهم وخيالهم، ولكن ذاكرتهم لا تتوقف، ومن خلالها، من خلال ما هو مخزن داخلها، يستمرون في الحياة.

أفكر شخصيا في ملء ذاكرتي لتكون ملاذي قبل النهاية. وملء الذاكرة في اعتقادي ليس بحشوها بالأحداث والوجوه والأماكن وإنما بالأحاسيس التي رافقت كل ذلك. يمكن أن ننسى ملامح شخص ما، لكن لا يمكن أن ننسى ما حملته لنا تلك الملامح من حب أو كراهية، وربما لا نعود نتذكر الأماكن التي زرناها، الكتب التي قرأناها، الأحلام التي حملناها، لكننا بالتأكيد لا يمكن أن ننسى كم فرحنا واندهشنا ونحن نطأ مكانا جديدا، أو لماذا بكينا وضحكنا في نفس الوقت ونحن نقرأ ميلان كونديرا.

عندما يتقدم بي العمر، أريد أن أقول كما قال نيرودا “أشهد أنني قد عشت”، فالحياة هي ما حملته الذاكرة في نهاية الأمر. ينتهي كل شيء وتبقى الذاكرة حية تنبض كأنها قلب الكون، قلب الحياة التي عشناها.

وربما، أثقلتنا الذاكرة وعجلت بانحناء ظهرنا وبطء أقدامنا وسقوطنا المتكرر. هذا أيضا حب منها، فالذاكرة تمرض كباقي أعضاء الجسد، وتموت لتأخذنا إلى المكان الذي يجب أن نكون فيه في نهاية الأمر.

موت الذاكرة، هو أسوأ أنواع الموت. لا وعي بالوجود ولا بالكينونة إلا عن طريق وعينا بالزمن، ولا زمن خارج ما نحسه. إذا ماتت الذاكرة مات الزمن داخلنا، وإذا مات الزمن، تلاشى كل شيء. لكن هذا يحدث كثيرا عن قصد أو عن غير قصد، وبالأخص لهؤلاء الذين لا يعتنون بذاكرتهم، يراجعونها ويتفقدونها ويرتبون أغراضها. ويحدث أيضا للذين يملؤون ذاكرتهم بكل شيء، إلى أن تنفجر في وجههم يوما.

لكن هل صحيح أنه بإمكاننا أن نتحكم في ذاكرتنا ونختار بين ما نحفظه داخلها وما نرميه؟ أظن أن هذا ممكن إلى حد بعيد، لكنه يحتاج إلى تدريب مستمر. هناك أشياء تفرض نفسها علينا ولا سبيل إلى التخلص منها، لكن يمكننا مد غطاء فوقها بحيث لا نعود نراها كلما مررنا من أمامها، وإنما يحتاج الأمر أن نتجه نحوها، نرفع العطاء، ونطل برؤوسنا تحته.

أقصد، بإمكاننا تحويل عملية التذكر إلى عملية واعية واختيارية. أشياء أخرى ستكون أكثر تعقيدا ربما، كتلك التي نسقطها باستمرار من ذاكرتنا ونصر نحن على العودة إليها في كل مرة لالتقاطها من التراب، ومسح أطرافها ودسها في ذاكرتنا مجددا، ربما لأننا نعتبرها أغلى مما هي نفسها تظن.

الأقسى دائما، هي تلك الذكرى التي لا أحد يهرب منها، ولا أحد ينجو، إنها صرخة الحياة التي تظل ترافقنا حتى الموت. يقال إن الإنسان يتذكر ساعة مولده، اختناقه، بكاءه وصرخته، وأن هذه هي الذكرى الأثقل على الكائن البشري، وربما السبب في معاناته أيضا.

العرب اللندنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى