للوجه قناع.. وهو أنت منذ الآن* ميموزا العراوي

النشرة الدولية –

خصص الفنان التشكيلي الإيراني المعاصر شابنام أيهدايل العديد من لوحاته التشكيلية لفكرة القناع. صوّره كبديل، كحالة تحوّل، وككذبة. لوحات انتمت بأسلوبها الفني إلى الواقعية المُبسطة، إلا أن الأفكار التي طرحها عبرها ليست بسيطة وتنتمي إلى الزمن الحالي، حيث يتعاظم دور الكائنات الذكية ذات الملامح الإنسانية.

تحدّث الفنان الإيراني حول أعماله، قائلا “جرت العادة أن نستخدم قناعا مناسبا لكل موقف نواجهه في المجتمع. بعض هذه الأقنعة جيّدة وبعضها تصبح مُسيئة إلينا في حال اتحد وجهنا الأصلي بها”.

وبدت أعماله المعنونة بـ”بيرسونا” من ناحية متأثرة بأفكار “حقبة ما بعد الحقيقية” وتحت تأثير نظرية “البيرسونا” للعالم النفسي كارل يونغ. وتعبير بيرسونا هو مصطلح يوناني قديم معناه القناع، أي “الوجه المزيّف” الذي يختاره ويتبناه الإنسان ليقدّم ذاته عبره إلى المجتمع. ورأى كارل يونغ، وباختصار شديد، أن اختلال التوازن ما بين الإنسان وأقنعته يؤدي إلى مشاكل جمة للفرد وللمجتمع على السواء.

سيرة “القناع” في المجتمع الإنساني سيرة طويلة جدا. ما يهمّنا هو تسليط الضوء على تحوّل القناع من كيان منفصل إلى “مادة” كامنة ومُؤسسة لملامحنا الإنسانية.

هناك أعمال فنية كثيرة تأخذنا إلى عوالم الأقنعة المتطورة بعدما اتحدت مع الوجوه الأصلية لتظهّر الصراع الذي استكان ما بين الفرد وقناعه المتمكّن منه كأخطبوط لزج الأطراف وكنتيجة حتمية لتفشي شعوره العميق بالعزلة.

ليس بعيدا جدا عن الفن، ينهمك اليوم مُهندسي الآلات الذكية بتطويرها “لأجلنا” ولتحمل ملامحنا البشرية المعاصرة/ المُقنّعة بصيغ تزداد دقة. بدأ يترتّب على تلك الدقة إحداث تبدّلات في صميم تركيبتنا النفسية والاجتماعية والسياسية (النفاذ إلى عوالم الجسد والجنس والحب) وتركيبتنا الفيزيائية (تعليق مُلحقات إلكترونية على الجسد ودسّ عدسات وصفائح إلكترونية شبه مجهرية في الجسد.. الخ)، وصولا إلى ما يبدو أنها بداية للمرحلة الأخيرة. بداية بدأت فيها عملية غير موجعة وبالغة الحساسية في صهر أقنعتنا، التي اجتهدنا على صناعتها ربما منذ بداية الحرب العالمية الأولى، مع ملامحنا الأصلية كبشر.

أما المادة الأسيدية الصاهرة، فهي أيضا مُبتكر إنساني وليست إلا ما جرى على تسميتها بـ“حقبة ما بعد الحقيقة”. ولعل الشاعر الفرنسي جون كوكتو هو أروع من عبّر عن مفهوم القناع بشكله المعاصر جدا، ليس لأنه أدخله في أعماله فقط (أجملها سلسة من الصور الفوتوغرافية التي تظهره مُستلقيا في فراشه برفقة قناع أبيض)، بل لأنه من أهم الشخصيات الثقافية التي لم تكفّ عن ارتداء الأقنعة كحالات وأدوار وجودية استنفذت قوّتها، كما استنفذ تعاظم الأكاذيب، إنسانية الوجوه البشرية. فالشاعر لم يكن فقط شاعرا، بل كاتبا وإعلاميا ومخرجا سينمائيا ومسرحيا ورسّاما وكاذبا كبيرا في أكثر من فرصة وعلى أكثر من صعيد.

إن المّطلع على مجمل أعماله سيدرك أن كوكتو كذب على ذاته وعلى الآخرين، ارتدى أقنعته كأفعال صلاة كي يخدّر إحساسه بالعزلة وقلقه المُستفحل الذي أعلى ما دوّن، كان في مؤلف واحد من بين جميع مؤلفاته، وهو “في صعوبة أن تكون”. هنا تحديدا، في صعوبة أن يكون، بات الإنسان المعاصر يعيش خفقان صراعه مع أقنعته النافذة أكثر فأكثر إلى داخل مسامات وجهه “الأصلي”.

ومن الأعمال السينمائية العظيمة التي تطرقت إلى مفهوم القناع بالمعنى المعاصر للكلمة، الفيلم الذي كتبه وأخرجه إينغمار برغمان سنة 1966، والذي حمل عنوان “بيرسونا”، وهو ذات العنوان الذي أعطاه الفنان شابنام أيهدايل لمجموعته الفنية بعد أكثر من 45 سنة عن الفيلم.

كان برغمان (كما الفنان) في فيلمه هذا تحت تأثير أفكار كارل يونغ المتعلقة بـ“بيرسونا”، غير أن بيرغمان المُبحر دائما في عوالم النفس البشرية الأكثر ظلمة وتعقيدا أنتج تحفته “بيرسونا” داخلا إلى أعماق اختلال الشخصية “المُقنّعة”، إلى جانب تطرّقه إلى عدة مواضيع شائكة أخرى كبحثه في أن ازدواجية الشخصية تفضي بالطبيعة معظمها إلى بعضها البعض.

غير أن أكثر ما يهمّنا في فيلم بيرغمان، هو أنه جعلنا نعيد النظر إلى صيغة “البيرسونا” من منظار ما بعد حداثي. لذلك يمكن اعتبار فيلمه سهما رائيا ألقاه من حقبته إلى زمن “ما بعد الأقنعة النفسية”، أي الزمن الذي تطوّرت فيه صناعة أجساد آلية ذكية تعتليها رؤوس بأقنعة “بشرية” جدا.

أجساد تحاكي “صقيع” جسديْ بطلتيْ الفيلم إليزابيث وإلما. صقيع ابتلع حرارة ملامح وجهيهما/ قناعيهما المسكونين بمآسي مُرعبة لمجرد أنها تراكمت كجبل جليدي في الأعماق لم يظهر منه، إلا هيئة ضئيلة وكفيلة في الآن ذاته بأن تدمّر سفينة/ مسيرة حياتهما.

سُؤل إينغمار بيرغمان حول معنى مشهد تشرب فيه إليزابيث من دماء ألما برضاها، فأجاب “قدّمت ألما القليل من دمائها والقليل من لحمها لألما كي تشربه وتأكله لتمضي في حال سبيلها. أما إليزابيث، فهي كائن حساس وذكي وموهوب ولا أخلاقي. هي وحش كاسر لأن الفراغ والإحساس به نهشها كليا”.

هل بتنا جميعنا كإليزابيث حساسين وأذكياء ولكن دون أدنى معايير أخلاقية؟ لم يبقى لدينا كبشر “من لحم ودم” وكوحوش تنهشنا العزلة إلا أن نقدّم دمائنا/ ملامحنا/ جيناتنا/ إلى من هم خارجون من مصانعنا/ أتوننا: ورثة الأرض (أو أي كوكب آخر إذا دمرنا الأرض). ورثتنا هم الكائنات الآلية.

اليوم أصبحت هذه الأقنعة التي اندمجت مع وجوهنا قريبة أكثر من ملامح الكائنات الآلية الذكية وليس العكس. لذلك نقف اليوم أمام سؤال، هل وصل الإنسان إلى نهاية قدرته على تحمّل تصدعات أقنعته فأوصى الآلة الذكية أن تكون مصيره؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى