لبنان الموقوف بين العمالتين الإسرائيلية والأسدية والذاكرة الانتقائية
النشرة الدولية – أورنيلا عنتر –
يقول البعض إنّ السجال الذي يدور اليوم بين اللبنانيين حول حقبة من حقب الحرب اللبنانية، يشبه نبش القبور إلى حدّ بعيد. لكن أين الميت وأين جثّته؟ فالحرب اللبنانية تشبه”الصبية” في الإنجيل: لم تَمُتْ، لكنّها نائمة.
صندوق باندورا اللبناني
السجال اللبناني الحالي إذاً، يشبه فتح الجارور الأخير من خزانة في نهاية يوم طويل من آخر أيام الصيف. جارور تكاد تلتصق قاعدته بالأرض، ويتطلب فتحه انحناء الظهر وتقوّسه أو الجلوس أرضاً لتفحّص محتوياته. وهو أيضا الجارور نفسه الذي لا يجرؤ أحد على فتحه لشدة اهترائه، وقد يؤدي فتحه إلى انقلاب الجوارير الأخرى بعضها البعض الآخر، وتفكك الخزانة وتداعيها عبثاً حتى قاعدتها.
على الرغم من ذلك، فُتِح الجارور في الأسبوع الماضي، وأخرجت محتوياته: الذكرى السنوية لاغتيال رئيس الجمهورية السابق بشير الجميّل، ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا، دخول العميل الإسرائيلي عامر فاخوري الأراضي اللبنانية، اعتصامات الأسرى السابقين في باحة معتقل الخيام، والسجال الذي دار بين سهى بشارة وجمهور التيار الوطني الحرّ، والسؤال عن المعتقلين اللبنانيين في سجون النظام السوري، والحديث عن “عملاء بسمنة وعملاء بزيت”.
كيف حُشر كلّ هذا في هذا الجارور الصغير؟
في كل سنة تترافق ذكرى اغتيال بشير الجميل مع سجال يشوبه البكاء على “بشير الحلم” من جهة، والاحتفال الفرح بشجاعة قاتله حبيب الشرتوني من جهة أخرى. سجال أصبح بمرور السنوات أشبه بموسيقى خلفية لم يعد ينتبه لها أحد. لكن عودة العميل الإسرائيلي عامر فاخوري إلى بيروت عبر مطار رفيق حريري الدولي شأن آخر. وفجأة عاد الأسرى السابقون إلى معتقل الخيام. ساقوا أجسادهم إليه. وقفوا في باحته الخارجية هذه المرّة. أمّا سهى بشارة، وهي أيقونة “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية” (جمول) المغدورة، في وجه الاحتلال الإسرائيلي. فعادت الأيقونة أيضا إلى الواجهة، وعادت صورها إلى الشاشات وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، مذيّلة بعبارة “زهرة الجنوب”، إلى أن سألها جوزيف أبو فاضل “انتِ مين؟”.
المسيحيون يعترفون
على هامش هذا السجال، في قلبه وفي صلبه، هناك من يسأل المسيحيين اللبنانيين “من أنتم؟”، أو بالأحرى: “بصفّ من أنتم؟”، وكأنهم مضطرون في كلّ مرة إلى تبرير أنفسهم، بحكم الوصمة التي التصقت بهم باعتبارهم – تارة بالجملة وتارة بالمفرّق – عملاء لإسرائيل.
يقول نائب رئيس حزب الكتائب الوزير السابق سليم الصايغ لـ”المدن” أنّ “حزب الكتائب عامةً وبشير الجميل خصوصاً، متهّم تاريخيا بالتعامل مع إسرائيل، وكأن الإسرائيليين لم يدخلوا لبنان قبل الجميّل وبعده”. ويدين الصايغ في هذا السياق الاستغلال السياسي الرخيص لحقب تاريخية معيّنة مجتزأة من سياقها العام. “لكن الكتائب متصالحة مع نفسها تماما”، حسب الصايغ الذي يذكّر بأنّ المسيحيين – أي الجبهة اللبنانية وفي طليعتها حزب الكتائب – قاموا بمراجعة تاريخية نقدية للحرب اللبنانية، للعلاقة بسوريا والفلسطينيين وإسرائيل. ويضيف: “نحن نعتبر أنّنا حددنا المحطات التي أخطأنا فيها والأخرى التي أصبنا فيها”.
ويشير الصايغ إلى أنّ حزبه يرفض تسمية الحرب الأهلية ويفضّل عليها الحرب اللبنانية، إذ لم يتقاتل اللبنانيون فيما بينهم فحسب، بل هي حروبنا وحروب الآخرين علينا وعلى أرضنا على حدّ سواء. الآخرون، بحسب الصايغ، هم المحتلون الإسرائيليون والسوريون، إضافة إلى الوجود الفلسطيني الذي تحوّل احتلالا بحكم سيطرته على القرار السياسي وسلطته على أراض لبنانية. يشرح الصايغ: “كان هذا الجوّ العام في لبنان آنذاك وكانت الأراضي اللبنانية مستباحة وكل مجموعة تبحث عن تحالف خارج الحدود اللبنانية لحماية وجودها أو الاستقواء على الآخرين”. ويتابع: “عندما شعرنا بتهديد يمسّ وجودنا جرّاء محاولات التوطين الفلسطيني واستباحة الأرض، بحثنا عن دعم خارجي، ووجد المسيحيون من يقدّم لهم هذه المساعدة، أي إسرائيل”.
النائب ألان عون في حديث لـ”المدن” عن تخوين المسيحيّين يشير بدوره: “لا يمكن اجتزاء التاريخ وعزل أحداثه عن سياق الظروف التي فرضتها”. ويضيف: “لا شك أنّ الظروف فرضت، في فترة معيّنة، تقاطع بين المسيحيّين والإسرائيليين ضد المنظمات الفلسطينية، لكنّ الموضوع يقارب بصرف النظر عن السياق”. يستنكر عون في هذا الإطار استسهال اللبنانيين عملية تخوين بعضهم البعض الآخر، ويرفضه تماما: “قياس البعض لوطنية الآخرين وحسابها وفقا لدرجات، وإجراء المقارنة بين اللبنانيين على هذا المقياس مرفوض. إذ يمكن للتيار الوطني الحرّ أن يلقي النظرة نفسها على فرقاء كان لهم مواقف متباينة عن موقفنا أيّام الوجود السوري، لكننا نرفض أن نعيش في الماضي”. وفيما اعتبر عون أنّ اتفاق الطائف جاء ليضع حدا لعمليات التخوين المتبادلة هذه، ولطيّ صفحة الماضي، يقرّ أنّ بعض الملفات لا تزال عالقة بين اللبنانيين وأبرزها الموقف من الوجود السوري في لبنان، ولاحقاً من الثورة السورية ومن نظام بشار الأسد.
بين العمالتين
الحديث عن العمالة لإسرائيل دفع البعض إلى الحديث عن العمالة للنظام السوري. هل النظام السوري عدوّ أم لا؟ هل كان وجوده على الأراضي اللبنانية احتلالا أم وصاية؟ هل كان اللبنانيون راضين بمجملهم عن خروج السوريّ من لبنان؟ هل يعدّ المقاومون الذين واجهوا الاحتلال السوري شهداء أم ضحايا أم قتلى؟
عام 2011، دار سجال بين طالب كتائبي وآخر ينتمي لواحد من الثنائي الشيعي في حرم كلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة القديس يوسف في هوفلان، قبل أسبوع من الانتخابات الطلابية. قال حينها الطالب الكتائبي لزميله أمام حشد من الطلاب: “نحن نحترم شهداء المقاومة الذين سقطوا في الجنوب في مواجهة إسرائيل، لكنكم لا تحترمون شهداءنا؟ كيف تكون صورة والدك الشهيد المعلقة على الحائط في غرفة الجلوس في بيتكم، أكثر رمزية من الصورة نفسها المعلّقة في بيتي أنا مثلا لشهيد سقط من عائلتي في مواجهة الاحتلال السوري؟”
في هذا الإطار، يذكّر الصايغ بخطاب لبشير الجميل عقب انتخابه رئيسا للجمهورية قال فيه إنّ “كل من مات في أي موقع دفاعا عن قضية في لبنان هو شهيد”. ويعتبر أنه كان من المفترض أن يقوم اللبنانيون، والأحزاب اللبنانية في الطليعة، بواجب مراجعة الذاكرة بعد خروج الجيش السوري من لبنان. لكنّ واجب المراجعة هذا يحصل بعد انتهاء الحرب، فهل انتهت الحرب في لبنان؟ يسأل الصايغ ويجيب: “كان من المفترض أن ينجز الطائف هذه المهمة لكن الاحتلال الإسرائيلي للجنوب والسوري للبنان حالا دون ذلك. أمّا بعد التحرير عام 2000، وبدل من حماية الجيش اللبناني للحدود، اختُرع ملف مزارع شبعا ذريعة لوجود وبقاء حزب الله، واستمرت الحرب على هذا النحو. هذا في الجنوب. أمّا في بيروت فتتالت الاغتيالات السياسية ودخلنا في مرحلة الحرب الباردة التي ازدادت سخونة في 7 أيار 2008، لتعود وتفتر ثم تبرد وتسخن مجددا على وقع مستجدّات المحكمة الدولية الخاصة بلبنان”.
إذاً، حسب الصايغ، لم يعرف لبنان الهدوء اللازم لكي ينجز هذا العمل الذي يسمى واجب مراجعة الذاكرة. ويضيف: “التاريخ ليس سلعة تُصادَر، وهو لا يوضع بيد الشعوب بهذا الشكل، بل هو عملية سياسية نخبوية من شأنها أن تقرر، من خلالها، مستقبلها ومستقبل الشعب والوطن”. في هذا السياق يرفض الصايغ تخويف المسيحيين بسطوة اتهامهم بالعمالة لإسرائيل، داعيا كل حزب وكل مجموعة إلى البحث عن العملاء في ربوعها، مذكرا أن معظم الشبكات التي عرفت بعمالتها لإسرائيل هي من البيئة المقرّبة من حزب الله.
لبنان لا يقوم بذاكرة واحدة
يعتبر الأكاديمي والأستاذ الجامعي جميل معوّض أنّ السجال الذي يحصل اليوم صحيّ جدا في بلد مثل لبنان. ويعتبر أيضا أنّ الحديث عن غياب ذاكرة الحرب اللبنانية كلام مغلوط، إذ انّ الروايات والأفلام والأعمال الفنية التي تناولت الحرب عديدة، كل منها عالج الحرب حسب موقع كل من المراجعين. وعلى خلاف السائد، يجد معوّض أن لا حاجة لذاكرة واحدة شاملة لكل اللبنانيين. يشرح معوّض: “عدا عن كون ذلك غير ممكن في بلد مثل لبنان، يحقّ لأي كان أن يتذكر الحرب اللبنانية كما عاشها وكما نقلت له، أو حتى كما يحلو له. ثمّ أنّ واجب الذاكرة وعملية توحيدها تتم عادة بعد انتهاء الحرب، أمّا في لبنان فيصعب الفصل بين الحرب وما بعد الحرب”. بالنسبة لمعوض، الحرب اللبنانية لا تزال مستمرة انما من دون أن يتقاتل اللبنانيون فيما بينهم.
ويضيف: “لكنّ الموقف من إسرائيل مسألة أخرى، فهذا الموقف هو الوحيد المتفق عليه في لبنان”. هل هو كذلك فعلا؟ وماذا عن الموقف من النظام السوري الذي يعود الحديث عنه إلى الواجهة؟ يجيب معوّض: “بعيدا من السياسة، وعلميا، الوجود السوري كان نوع من الوصاية وليس احتلالاً، وإذا ما أراد البعض اعتباره احتلالاً فعندها يجدر بهم اعتبار كل من تعاون مع هذا الوجود من الزعماء اللبنانيين عميلا”. حسب معوّض، سوف تتراجع معظم الأحزاب اللبنانية عن هذا التوصيف إذا ما فرض هذا الشرط. وفي الختام، يتوقف معوّض عند عودة الفاخوري إلى الأراضي اللبنانية ليشير إلى إيجابيات كثيرة أظهرتها، أو أعادتها إلى الواجهة: أبرزها سهى بشارة “باعتبارها مثال مضادّ للخطاب الشعبويّ السائد، وفي طليعته الخطاب العونيّ. فهي تمتاز بثبات موقفها، هدوئها وعزيمتها، وباعتبارها الوجه الجميل للمقاومة الذي كاد اللبنانيون أن ينسوا أنه وجد يوما”.
عن موقع “المدن”