محبرة الدمع* صالح الشايجي
النشرة الدولية –
لست كحال حبيبة ذلك الشاعر القائل:
تسلم باليمنى علي إشارة
وتمسح باليسرى مجاري المدامع
ولكنني لست بعيدا عن تلك الحال..
فيمناي تلوح بالوداع لحبيبتي، ويسراي على خافق يخفق بمرارة الوداع ولوعة الفراق.
وما تلك الحبيبة سوى جريدتي «الأنباء» التي أكتب اليوم خطاب وداعها وأخط آخر كلماتي على صفحاتها.
اليوم أخرج من خيمة «الأنباء» بعد زمن ناف على ثلاثين سنة قضيتها تحت سقف تلك الخيمة.
أخرج اليوم من الخيمة لأكون تحت الغيمة، غيمة «الأنباء» التي ستبقى فوقي تظلني وتبرد جور الهجيرة وتهطل عليّ قطرات ندى تبلل صادي أيامي.
ماذا أذكر في «الأنباء» وماذا أتذكر، وبين الذكر والتذكر حائط صد منيع يمنع النسيان من التغلغل.
هل أنسى عماد «الأنباء» الراحل الكبير «حالب المزن» خالد يوسف المرزوق عمود الخيمة ورواقها وأطنابها، فهل لرجل مثله أن يُنسى؟.
لقد وصفته في رثائي له بـ «حالب المزن» لما عرف عنه من أياد بيضاء تجاوزت حدود البلاد وبلغت قصيا من الأرض وأنست الناس «حاتم الطائي»!
وهل أنسى نسمة «الأنباء» العذبة الراحل في ندى العمر، وليد خالد المرزوق!
أم أنسى شقيقة الروح رئيسة التحرير السابقة بيبي خالد المرزوق، التي سلمت الراية لأخيها يوسف ليحمل راية «الأنباء»، فكان نعم الخلف.
بين أول حرف خططته على صفحات «الأنباء» والحرف الأخير الذي أخطه اليوم وشيجة لم تنقطع.
كل تلك الحروف تشكل مقالة واحدة ممتدة قوامها واحد وثلاثون عاما وملايين الكلمات.
كأنما محبرتي تنز دمعا لا حبرا، وأنا أكتب خطاب الوداع هذا، كأنها تسبقني في استشعار طعم الغياب المر، فتكره أن تنز حبرا.
فرشت «الأنباء» لي سمطا، وما طوت سماطا قط.
فرشت لي سماطا لزاويتي «بلا قناع» وسماط «الأسبوع ستة أيام» وسماط «قيلولة»، وزهت السمط بما حوت من كتابات توشحت بالأدب والسياسة والهجاء والسخرية والرثاء والضحك والبكاء.
وكلما قرأت لي كلمة مخطوطة في «الأنباء» سموت وارتقيت وزهوت، وكأنني طفل في ثياب العيد.
أغدو كنخلة تزهو بأعذاقها وبطيب جنيها.
لقد وهبتني «الأنباء» واحدا وثلاثين عمرا من عمرها، ولا أقول أخذت واحدا وثلاثين عاما من عمري.
كبيرة.. كبرت زروعي في حدائقها.
في أرجائها نضجت كلماتي، ماست وتراقصت، أبكت وأوجعت، أضحكت وتغزلت، أحبت وما كرهت.
وداعا يا حبيبتي..
سأخرج من بابك وأنا أحملك في قلبي.
فليهنأ بك قلبي.
الأنباء الكويتية